في كل مرة تسير فيها في أحد المولات التجارية أو عندما تتصفح تطبيقات التسوق الإلكتروني في مصر، ستجد نفسك أمام حالة متكررة يعرفها الجميع. تقع عيناك على منتج يبدو مغريًا، عرض محدود أو تخفيض جذاب يشعل بداخلك رغبة فورية في الشراء. ويبدأ في لحظات مزاجك في التحسن، ويعلو داخلك إحساس بالفرحة بمجرد اتخاذ قرار الشراء، كأنك انتصرت في معركة صغيرة مع نفسك أو مع الواقع.
ولا يدوم هذا الشعور طويلًا، فبعد ساعات وربما دقائق قليلة بمجرد وصولك إلى المنزل وفتح المشتريات، يتبدل هذا المزاج، ويبدأ إحساس بالتراجع أو الندم يتسلل إليك، وتبدأ في طرح الأسئلة المعتادة: هل كنت بحاجة فعلية لهذا الشيء؟ هل كان يستحق السعر؟ ولماذا لم أتمهل قبل اتخاذ القرار؟
هرمون الدوبامين والمحفزات النفسية
إن هذه الظاهرة التي تبدو شخصية جدًا في ظاهرها، ترتبط في العمق بآلية بيولوجية دقيقة داخل دماغ الإنسان، ألا وهو هرمون الدوبامين الذي يعد المحرك الأساسي لهذه الدائرة الشعورية، فبمجرد تعرضك لمحفز بصري أو سمعي يعكس عرضًا مغريًا أو سلعة تحمل قيمة اجتماعية أو نفسية، يبدأ الدماغ في إفراز كميات أكبر من الدوبامين، مما يدفعك للشعور بالسعادة والتشويق، ليس عند الحصول على المنتج، بل عند الترقب، وتحدث المتعة الحقيقية في هذه التجربة النفسية أثناء الانتظار والاندفاع نحو قرار الشراء، بينما يتراجع هذا الأثر الكيميائي سريعًا بعد إتمام الفعل نفسه.
ولقد تحولت ظاهرة الشراء العاطفي في السوق المصري إلى سلوك جماعي له تأثير ملموس على حركة الاقتصاد والاستهلاك، ومع توسع ثقافة الاستهلاك، وسهولة الوصول إلى التسوق الإلكتروني، وكثرة الإعلانات الرقمية، أصبح هذا السلوك أكثر وضوحًا بين المستهلكين، وتشير مؤشرات سوقية ودراسات متعددة إلى أن معدلات الإنفاق خلال مواسم الخصومات تشهد زيادة ملحوظة مقارنة بالأيام العادية، بينما يعترف عدد كبير من المستهلكين بتأثر قرارات شرائهم بالعوامل العاطفية خاصة عند تعرضهم للعروض والخصومات، حتى في الحالات التي لا تكون فيها الحاجة فعلية للمنتجات.
التأثير على الاقتصاد الكلي
إن الأمر لا يتوقف عند تجربة فردية عابرة، بل يمتد ليترك أثرًا واضحًا على الاقتصاد الكلي، حيث يسهم الشراء العاطفي في تحريك عجلة السوق وزيادة معدلات الطلب على السلع، خصوصًا في قطاعات مثل الملابس والأجهزة الإلكترونية والأدوات المنزلية ومستحضرات التجميل خلال مواسم مثل الجمعة البيضاء أو تخفيضات نهاية العام، وتسجل سلاسل المتاجر الإلكترونية ومراكز التسوق معدلات مبيعات قياسية.
وتشهد المتاجر الإلكترونية ومراكز التسوق في مصر خلال أسبوع الجمعة البيضاء إقبالاً كبيراً من المستهلكين، حيث تقدم تخفيضات قد تصل إلى 70% على مختلف السلع، مما يعكس نشاطًا تجاريًا ملحوظًا خلال هذه الفترة.
ويخلق هذا النمط الاستهلاكي آثارًا سلبية تبدأ بتراجع معدلات الادخار لدى الأسر المصرية، وتشير تقديرات تقارير اقتصادية متعددة إلى تراجع قدرة الأسر المصرية على الادخار خلال السنوات الأخيرة، متأثرة بتفاقم معدلات التضخم وتآكل القوة الشرائية، الأمر الذي انعكس سلبًا على حجم المدخرات النقدية لدى المواطنين، في ظل ارتفاع متواصل في أسعار السلع والخدمات.
الانفاق العاطفي والتصخم
إن هذا الإنفاق العاطفي يسهم أحيانًا في رفع معدلات التضخم بشكل غير مباشر، والأكثر تعقيدًا ففي أوقات المواسم، يؤدي الطلب المفاجئ والمتزايد على سلع محددة إلى ارتفاع أسعارها، حتى بعد انتهاء العروض، وتظهر تجارب الأسواق الموسمية في مصر أن مواسم الخصومات كثيرًا ما تتسبب في ارتفاع مؤقت لأسعار بعض السلع الأساسية، نتيجة الطلب المتزايد والمفاجئ، وهو ما يؤكده مراقبون اقتصاديون وخبراء تجارة التجزئة، حيث يمتد هذا الأثر أحيانًا لفترة أطول من توقيت العروض.
إن الشركات والمؤسسات التجارية في السوق المصري تدرك تمامًا ديناميكية هذا السلوك، لذلك أصبحت تعتمد بشكل مكثف على استراتيجيات تحفيزية تستهدف إثارة مشاعر المستهلك قبل تحفيز منطقه، والعروض المحدودة بالوقت، وخصومات “اشتري الآن وادفع لاحقًا”، والإعلانات التي تستغل مشاعر الحنين أو المكانة الاجتماعية، كلها أدوات تستخدم بذكاء لرفع نسب الدوبامين لدى العملاء ودفعهم نحو قرارات شراء اندفاعية، وتشير تقارير اقتصادية منشورة وتحليلات سوقية إلى تصاعد معدلات الإنفاق العاطفي في مصر بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، في ظل تضاعف معدلات العروض والخصومات الإلكترونية، وتنامي تأثير الحملات الترويجية على سلوك المستهلكين.
ومن اللافت أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة وارتفاع معدلات التضخم وتراجع القوة الشرائية لم تحد من انتشار ظاهرة الشراء العاطفي في مصر، بل ساعدت في تعميقها. ففي أوقات الأزمات، يلجأ المستهلك المصري وفقًا لقراءات اقتصادية متواترة إلى اقتناء منتجات تمنحه شعورًا مؤقتًا بالفرح كوسيلة للهروب من الضغوط اليومية، ولقد برز هذا السلوك بوضوح في فترات الأزمات الاقتصادية، كما حدث في فبراير 2024 حين قفزت مبيعات الأجهزة المنزلية رغم بلوغ معدلات التضخم السنوي مستويات قياسية، في مشهد يعكس قوة العاطفة الشرائية أمام المنطق الاقتصادي.
وتبقى معركة الشراء العاطفي مع العقل في نهاية الأمر معركة مفتوحة يوميًا في ذهن المستهلك المصري، وبينما تواصل المؤسسات التجارية إطلاق محفزاتها الذكية لاستدراج الزبائن، يظل السؤال الحاضر: هل يمكن للوعي الاقتصادي أن ينتصر ويعيد التوازن لسلوك الإنفاق، أم سيظل الإنفاق العاطفي اللاعب الأقوى في ساحة الاستهلاك المصري؟
د / إســــــــلام جــمــــال الـــديـــن شـــــــوقـــي
خـــــبـيـر اقــتصـــــــــــــــادي
عــضـو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي
إنفينيتي الاقتصادية
ويمكنك متابعة موقع “إنفينيتي الاقتصادية” عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على أحدث التحديثات اليومية لأسعار العملات الأجنبية والعملات العربية مقابل الجنيه، بالإضافة إلى أسعار الذهب في مصر.
ويقدم موقع “إنفينيتي الاقتصادية” مجموعة واسعة من الخدمات تشمل: “أخبار اقتصادية، أخبار محلية، أخبار الشركات المصرية، تحليلات السوق المصرية، الأحداث الاقتصادية المهمة في مصر، أخبار اقتصادية من الدول العربية، تحليلات اقتصادية إقليمية، الأحداث الاقتصادية المهمة في العالم العربي”.
كما يقدم موقع “إنفينيتي الاقتصادية” الأحداث الاقتصادية المهمة على مستوى العالم، بالإضافة إلي خدمات توعوية، مقالات تحليلية، دراسات اقتصادية، إنفوجرافيك، فيديوهات، تحليلات أسواق المال، نصائح استثمارية، أدوات مالية”.