الخميس, 21 نوفمبر, 2024
رئيس مجلس الإدارة
د. إسلام جمال الدين


المشرف العام
محمد عبدالرحمن
رئيس مجلس الإدارة
د. إسلام جمال الدين


المشرف العام
محمد عبدالرحمن

إسلام جمال الدين يكتب: من الجنيه الورقي إلى الجنيه الرقمي.. ما الذي ينتظر مصر في المستقبل المالي؟

إسلام جمال الدين شوقي

تتجه العديد من الدول ومن بينها مصر في عصر التحول الرقمي السريع نحو تطوير عملات رقمية وطنية فمع إعلان البنك المركزي المصري عن مشروع الجنيه الرقمي في أواخر عام 2021 بدأت مصر رحلتها نحو عصر جديد من الابتكار المالي، ويُعدُ هذا المشروع الطموح الذي يحمل في طياته إمكانات هائلة أساسًا لتحويل المشهد الاقتصادي والمالي في مصر، ولكنه يأتي أيضًا مع تحديات كبيرة تتطلب تخطيطًا دقيقًا وتنفيذًا حكيمًا.

وهنا يتبادر سؤال للأذهان ما هو الجنيه المصري الرقمي؟

الجنيه الرقمي: هو أول عملة الكترونية مصرية يتم التعامل بها في المحافظ الذكية والتطبيقات المالية المختلفة وهو نسخة رقمية من الجنيه الورقي وسيخضع لنفس السياسات النقدية للبنك المركزي المصري وهو خطة ضمن رقمنة القطاع المصرفي والمالي وتأسيس البنوك الرقمية خلال الفترة من 2024 إلى 2030.

ويمكن القول بإيجاز أنه نسخة إلكترونية من العملة الوطنية مدعومة ومنظمة من قبل البنك المركزي، ولكن إمكانياته تتجاوز بكثير مجرد كونه بديلاً للنقود الورقية حيث يمثل فرصة لإعادة تشكيل النظام المالي بأكمله وتعزيز الشمول المالي وتحفيز النمو الاقتصادي من خلال تسهيل المعاملات وتقليل التكاليف، ويجب على البنك المركزي المصري النظر في تبني نهج شامل ومبتكر في تطوير وتنفيذ هذا المشروع من أجل تحقيق الإمكانات الكاملة للجنيه الرقمي.

وفيما يلي بعض المقترحات والأفكار التي يمكن أن تساهم في تعزيز فعالية وتأثير الجنيه المصري الرقمي:

1- نظام متعدد المستويات:

يُعدُ من أحد الجوانب الهامة التي يجب مراعاتها هو تطوير نظام متعدد المستويات للجنيه الرقمي ويمكن لهذا النهج أن يلبي احتياجات مختلف فئات المستخدمين من الأفراد العاديين إلى الشركات والمؤسسات الكبرى ولتوضيح ذلك فلنتصور أن هناك ثلاثة مستويات رئيسية:

– المستوى الأساسي يستهدف جميع الناس ويتميز بسهولة الاستخدام وبساطة الإعداد حيث يمكن للأفراد فتح محفظة رقمية باستخدام بطاقة الرقم القومي فقط مع وضع حدود يومية للمعاملات لضمان الأمان وهذا المستوى مثالي للمعاملات اليومية مثل شراء البقالة أو دفع فواتير الخدمات.

– المستوى الثاني يمكن أن يستهدف الأعمال الصغيرة والمتوسطة وقد يوفر هذا المستوى ميزات إضافية مثل إصدار الفواتير الإلكترونية، وإدارة الرواتب، وإمكانية إجراء معاملات أكبر وهذه الميزات يمكن أن تساعد في تحفيز نمو قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة، والذي يعتبر محركًا رئيسياً للاقتصاد المصري.

– المستوى الثالث فيمكن تخصيصه للشركات والمؤسسات المالية الكبرى ويتضمن هذا المستوى قدرات مالية ومعاملات ضخمة وأدوات تحليلية متقدمة، وإمكانيات للتكامل مع أنظمة تخطيط موارد المؤسسات المختلفة ويمكن لمثل هذه الميزات أن تعزز كفاءة الشركات الكبرى وتساعد في جذب الاستثمارات الأجنبية.

2- برنامج تجريبي محدود النطاق:

يُعدُ تنفيذ برنامج تجريبي محدود النطاق من قِبل البنك المركزي المصري قبل الإطلاق الوطني الشامل للجنيه الرقمي من الأفكار الجيدة حيث يمكن لهذا البرنامج أن يبدأ في محافظة معينة مثل الإسكندرية أو في قطاع اقتصادي محدد ولنتخيل السيناريو التالي أنه تم إطلاق الجنيه الرقمي تجريبيًا في محافظة الإسكندرية ويمكن للبنك المركزي أن يتعاون مع البنوك المحلية والتجار في المحافظة لتوزيع محافظ رقمية على عينة من سكان المحافظة، ويتم تدريب التجار على قبول المدفوعات الرقمية وإنشاء مراكز دعم لمساعدة المستخدمين على التعامل مع التكنولوجيا الجديدة، وفي خلال فترة التجربة التي قد تستمر لستة أشهر يمكن جمع بيانات قيمة حول أنماط الاستخدام، والتحديات التقنية، وردود فعل المستخدمين وستكون هذه المعلومات ذات قيمة كبيرة في تحسين النظام وتكييفه مع احتياجات المستخدمين قبل إطلاقه على مستوى الجمهورية.

3- دمج الذكاء الاصطناعي والتحيل الذكي:

يمكن أن يحدث ثورة إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي والتحليل الذكي في مجال الخدمات المالية بمصر في نظام الجنيه الرقمي حيث يمكن استخدام هذه التقنيات لتعزيز الأمان، وتحسين تجربة المستخدم، وتقديم خدمات مالية متخصصة فعلى سبيل المثال يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل أنماط الإنفاق للمستخدمين وتقديم نصائح مالية شخصية.

فلنتخيل أنه تم تصميم نظامًا يمكنه ملاحظة أنك تنفق الكثير من المال على الطعام خارج المنزل، ويقترح عليك ميزانية شهرية ويقدم لك نصائح لتوفير المال ويمكن لهذا النوع من الذكاء المالي الشخصي أن يساعد المصريين على إدارة أموالهم بشكل أفضل وتحسين أوضاعهم المالية، بالإضافة إلى ذلك فإنه يمكن أيضًا استخدام تقنيات تعلم الآلة للكشف عن الاحتيال في الوقت الفعلي من خلال تحليل أنماط المعاملات حيث يمكن للنظام تحديد الأنشطة المشبوهة وتنبيه المستخدمين أو السلطات المختصة على الفور وهذا يوفر حماية إضافية لأموال المستخدمين ويعزز الثقة في النظام المالي الرقمي.

4- واجهة برمجة تطبيقات (API) مفتوحة:

إن إنشاء واجهة برمجة تطبيقات مفتوحة للجنيه الرقمي يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة للابتكار في القطاع المالي المصري ويمكن لهذه الخطوة أن تحفز نمو قطاع التكنولوجيا المالية في مصر، وتخلق فرص عمل جديدة، وتقدم حلولاً مبتكرة للتحديات المالية.

ويمكن أن نتخيل مطورين مصريين يبتكرون تطبيقات تسمح للأصدقاء بتقسيم فواتير المطاعم بسهولة باستخدام الجنيه الرقمي أو شركات ناشئة تطور أنظمة للتمويل الجماعي تعتمد على العملة الرقمية الجنيه كما يمكن للشركات الكبرى أيضًا الاستفادة من هذه الواجهة لدمج الجنيه الرقمي في أنظمتها الداخلية مما يعزز الكفاءة ويقلل التكاليف.

5- برنامج حوافز لتشجيع الاعتماد:

قد يكون من المفيد لضمان اعتماد واسع النطاق للجنيه الرقمي فكرة إنشاء برنامج حوافز مبتكر ويمكن لهذا البرنامج أن يشمل مجموعة متنوعة من الحوافز لتشجيع المستهلكين والشركات على استخدام العملة الرقمية فعلى سبيل المثال يمكن منح المستخدمين خصمًا ضريبيًا صغيرًا على المعاملات التي تتم باستخدام الجنيه الرقمي أو يمكن إنشاء نظام نقاط ولاء وطني حيث يكسب المستخدمون نقاطًا على كل معاملة رقمية ويمكن استبدال هذه النقاط لاحقاً بخدمات حكومية مجانية أو تخفيضات على رسوم معينة للشركات.

كما أنه من الممكن تقديم حوافز مثل معدلات ضريبية مخفضة أو إجراءات إدارية مبسطة إذا تجاوزت نسبة معينة من معاملاتها باستخدام الجنيه الرقمي ويمكن لهذه الحوافز أن تشجع الشركات على تبني التكنولوجيا الجديدة وتحفيز انتشارها في جميع أنحاء الاقتصاد.

6- نظام للمدفوعات عبر الحدود:

تطوير نظام للمدفوعات عبر الحدود باستخدام الجنيه الرقمي يمكن أن يحدث ثورة في التحويلات المالية الدولية وتيسير التجارة الخارجية ويمكن لهذا النظام أن يحل مشكلة التحويلات المالية للمصريين العاملين في الخارج والتي تعتبر مصدرًا مهمًا للعملة الأجنبية لمصر.

ولنبسط الصورة من خلال المثال التالي فلنتخيل أن مصري يعمل في الخليج أرسل أموال لعائلته في مصر باستخدام الجنيه الرقمي بدلاً من إرسالها بأنظمة التحويل التقليدية ذات الرسوم المرتفعة وأوقات الانتظار الطويلة حيث يمكنه ببساطة تحويل الجنيهات الرقمية مباشرةً إلى محفظة عائلته في مصر بتكلفة منخفضة وبشكل فوري تقريبًا ويمكن لهذا النظام أيضًا أن يسهل التجارة الدولية للشركات المصرية حيث يمكن للمصدرين والمستوردين إجراء معاملات دولية بسرعة وكفاءة أكبر مما يعزز القدرة التنافسية للاقتصاد المصري على الساحة العالمية.

7- التكامل مع نظام الهوية الرقمية:

يمكن من خلال دمج الجنيه الرقمي مع نظام الهوية الرقمية الوطني أن يبسط العديد من الإجراءات المالية ويعزز الأمان حيث يمكن لهذا التكامل أن يسهل عمليات فتح الحسابات المصرفية، وتقديم طلبات القروض، وإجراء المعاملات المالية الكبيرة، فعلى سبيل المثال عند فتح حساب مصرفي جديد أو التقدم للحصول على قرض يمكن للبنوك التحقق من هوية العميل وتاريخه المالي على الفور باستخدام رقم الهوية الرقمية المرتبط بمحفظة الجنيه الرقمي الخاصة به.

وهذا يقلل من البيروقراطية ويسرع العمليات المالية مما يحسن تجربة العملاء ويزيد من كفاءة النظام المالي ككل، بالإضافة إلى ذلك يمكن استخدام هذا التكامل لتعزيز جهود مكافحة غسيل الأموال والتهرب الضريبي من خلال ربط المعاملات المالية بالهويات الرقمية ويصبح من الأسهل تتبع التدفقات المالية المشبوهة وضمان الامتثال الضريبي.

8- برامج التعليم المالي والرقمي:

من الضروري تنفيذ برامج شاملة للتعليم المالي والرقمي لضمان نجاح الجنيه الرقمي على المدى الطويل حيث يجب لهذه البرامج أن تستهدف جميع شرائح المجتمع بدءًا من الأطفال في المدارس حيث يمكن تطوير ألعاب تعليمية في المدارس الابتدائية تعلم الأطفال كيفية إدارة ميزانياتهم باستخدام نسخة مبسطة من الجنيه الرقمي حيث يمكن لهذا الأسلوب أن يغرس مفاهيم الإدارة المالية السليمة داخل وعي الأطفال منذ سن مبكرة.

أما في المدارس الثانوية والجامعات يمكن إدخال دورات حول الاقتصاد الرقمي وريادة الأعمال الإلكترونية حيث يمكن لهذه الدورات أن تُعد الجيل القادم للمشاركة بفعالية في الاقتصاد الرقمي وحتى ابتكار حلول مالية جديدة، وفيما يخص البالغين يمكن تقديم ورش عمل مجتمعية وحملات توعية عبر وسائل الإعلام لشرح فوائد ومخاطر العملة الرقمية حيث يمكن للبنك المركزي التعاون مع المنظمات غير الحكومية والمؤسسات التعليمية لتقديم هذه البرامج على نطاق واسع.

9- إنشاء مجلس استشاري للجنيه الرقمي:

يمكن إنشاء مجلس استشاري متنوع للجنيه الرقمي لضمان تطور المشروع بشكل متوازن ويلبي احتياجات جميع أصحاب المصلحة ويمكن لهذا المجلس أن يضم خبراء من مختلف المجالات ذات الصلة ولنتخيل فريقًا يضم خبيرًا في مجال الأمن السيبراني من إحدى الجامعات المصرية الرائدة، ومصرفيًا رائدًا ذو خبرة في التمويل الإسلامي، وعالم اقتصاد متخصص في الاقتصادات الناشئة، ورائد أعمال في مجال التكنولوجيا المالية، وممثلين عن المستهلكين والشركات الصغيرة وسيضمن لهذا التنوع في الخبرات والخلفيات أن يلبي الجنيه الرقمي احتياجات جميع شرائح المجتمع المصري.

ومن الجدير بالذكر أن هذا المجلس يستطيع أن يقدم مشورة استراتيجية حول تطوير وتنفيذ هذا المشروع ويساعد في تحديد وحل التحديات المحتملة، ويضمن أن يظل المشروع متماشيًا مع أفضل الممارسات العالمية مع مراعاة السياق المصري الفريد.

10- التعاون الدولي والتوافق مع المعايير العالمية:

من الضروري، بل ومن الهام جدًا أن يتم تطوير الجنيه المصري الرقمي مع مراعاة المعايير الدولية والتعاون مع المؤسسات المالية العالمية، وسيضمن هذا توافق النظام الجديد مع الأنظمة المالية العالمية ويسهل التكامل مع الاقتصاد العالمي حيث يمكن للبنك المركزي المصري التعاون مع بنوك مركزية أخرى تعمل على مشاريع مماثلة مثل البنك المركزي الأوروبي أو بنك الصين الشعبي، ويمكن لهذا التعاون أن يوفر رؤى قيمة حول أفضل الممارسات والتحديات المحتملة.

بالإضافة إلى ذلك يمكن لمصر المشاركة في مبادرات دولية مثل مشروع “Dunbar” الذي يهدف إلى تطوير منصة متعددة العملات الرقمية للبنوك المركزية على مستوى العالم مثل هذه المشاركة يمكن أن تضع مصر في طليعة الابتكار المالي العالمي.

ولا شك إن تطوير وتنفيذ الجنيه المصري الرقمي يمثل فرصة فريدة لمصر لتحديث نظامها المالي وتعزيز نموها الاقتصادي من خلال اتباع نهج شامل ومبتكر يُمكِن مصر أن تحول هذا المشروع إلى محرك قوي للتنمية الاقتصادية والشمول المالي، ومع ذلك من المهم الإشارة إلى أن تنفيذ مثل هذا المشروع الطموح لن يخلو من التحديات وستكون هناك حاجة إلى استثمارات كبيرة في البنية التحتية التكنولوجية، وتدريب واسع النطاق للموظفين والمستخدمين، وتعديلات على الأطر القانونية والتنظيمية.

وفي النهاية إن نجاح الجنيه المصري الرقمي سيعتمد على قدرته على تلبية احتياجات المواطنين والشركات المصرية، وتعزيز الثقة في النظام المالي، ودفع عجلة النمو الاقتصادي مع التخطيط الدقيق والتنفيذ الحكيم حيث يمكن للجنيه الرقمي أن يكون أداة قوية لتحقيق رؤية مصر للتحول الرقمي والتنمية الاقتصادية المستدامة.

وبينما تمضي مصر قدمًا في هذا المشروع الطموح ستكون هناك حاجة إلى مراقبة مستمرة وتقييم دوري للتقدم المحرز سيكون من الضروري أن يكون هناك مرونة كافية والاستعداد لتعديل الاستراتيجيات استجابةً للتحديات الناشئة والفرص الجديدة مع الالتزام المستمر بالابتكار والتحسين الذي يمكن الجنيه الرقمي أن يصبح نموذجًا يُحتذى به للعملات الرقمية الوطنية في منطقة الشرق الأوسط، بل والعالم أجمع.

الدكتور إسلام جمال الدين حاصل على دكتوراه في الاقتصاد، وهو خبير اقتصادي يكتب سلسلة من المقالات والأبحاث المتخصصة على موقع إنفينيتي الاقتصادي.

إقرأ أيضًا.. إسلام جمال الديـن يكتب: الاقتصاد الرمزي

بقلم / الدكتور إســــلام جـمــــال الـديـن شــــــــوقـي
خـبــــــير اقـتـصــــــــــادي
عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي

مقالات ذات صلة

الاكثر قراءة