برزت العملات المشفرة كظاهرة اقتصادية غيرت مفهوم التعاملات المالية التقليدية، ومع التطور السريع في عالم التكنولوجيا المالية حدث تحول جذري في طبيعة المعاملات المالية مما فتح آفاقًا جديدة في مجال التداولات المالية والاستثمار لكنه جلب معه في الوقت ذاته تحديات أمنية غير مسبوقة، وتُعدُ عمليات السرقة والاحتيال في سوق العملات المشفرة من أبرز هذه التحديات التي تواجه المستثمرين والمتداولين على حد سواء.
شهد سوق العملات المشفرة نموًا متسارعًا منذ ظهور عملة البيتكوين في عام 2009 حيث تجاوزت القيمة السوقية الإجمالية للعملات المشفرة تريليونات الدولارات، ولقد أدى هذا النمو الكبير إلى جذب اهتمام المستثمرين من مختلف أنحاء العالم، ولكنه تسبب في الوقت نفسه لاستقطاب اهتمام المحتالين الإلكترونيين أو ما يسموا بالهاكرز، ولكنهم متخصصين هذه المرة في سرقة الأموال وليس البيانات، والذين وجدوا ضالتهم حيث وجدوا فرصة سانحة في هذا السوق لتنفيذ عملياتهم الإجرامية.
ولعل أحدث مثال على ذلك ما شهده سوق العملات المشفرة أمس حيث شهدت منصة Bybit عملية اختراق معقدة أسفرت عن سرقة ما يقرب من 1.5 مليار دولار من العملات المشفرة مما يجعلها واحدة من أكبر عمليات السرقة الإلكترونية في التاريخ حيث تم التلاعب بعملة إيثريوم من خلال عملية تحويل روتينية للعملة بين المحافظ الرقمية مما أدى إلى نقل الأصول الرقمية إلى عنوان غير معلوم، ورغم كل المحاولات التي قامت بها الشركة لطمأنة عملائها وتأكيد قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية، إلا أن هذا الحادث يسلط الضوء مجددًا على المخاطر الكبيرة التي تتعرض لها وتواجهها سوق العملات المشفرة.
إن خطورة عمليات السرقة أو الهاكرز التي تتعرض لها سوق العملات المشفرة تكمن في طبيعتها اللامركزية حيث لا توجد جهة تنظيمية مركزية تشرف على المعاملات وتضمن سلامتها، ويشكل هذا الغياب للسلطة المركزية تحديًا كبيرًا في مواجهة عمليات الاحتيال الاليكترونية رغم كونه من المزايا الأساسية للعملات المشفرة، فعندما تتم سرقة العملات المشفرة يصبح من الصعب جدًا تتبعها أو استردادها خاصةً مع صعوبة تتبع هوية المحتالين وتعقب حركة الأموال المسروقة .
إن أساليب الاحتيال الإليكترونية في سوق العملات المشفرة في حالة تطور مستمر حيث يستخدم الهاكرز أو المحتالون تقنيات متقدمة وأساليب معقدة لتنفيذ عملياتهم، ومن أبرز هذه الأساليب الهجمات السيبرانية التي تستهدف منصات تداول العملات المشفرة حيث يتمكن القراصنة من اختراق أنظمة الحماية والوصول إلى محافظ المستخدمين.
ولقد حدثت العديد من الحوادث الكبرى حول العالم حيث تم سرقة مبالغ مالية ضخمة من العملات المشفرة نتيجة للهجمات السيبرانية، وقد أصدر مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) ووزارة الدفاع الأميركية ووكالة الشرطة الوطنية اليابانية بيانًا مشتركًا يُحمِل قراصنة كوريين شماليين مسؤولية سرقة 308 ملايين دولار من شركة يابانية للعملات المشفرة مما يبين خطورة تآكل رصيد تلك العملات بسبب هذه الهجمات.
كما تنتشر عمليات الاحتيال فيما يعرف باسم “عمليات السحب المفاجئ” أو “Rug Pull” في عالم العملات المشفرة ويتم ذلك عبر إنشاء عملات رقمية مشفرة وهمية حيث يقوم المحتالون بإطلاق مشاريع عملات رقمية مزيفة يروجون لها عبر حملات تسويقية ضخمة لجذب المستثمرين، وبمجرد ابتلاع المستثمرين للطعم وجمع مبالغ مالية كبيرة منهم يختفي القائمون على هذا المشروع مع الأموال.
لذلك يجب على المستثمرين اتخاذ إجراءات أمنية صارمة لحماية أموالهم المتمثلة في أصولهم الرقمية، ويأتي من بين أهم هذه الإجراءات استخدام المحافظ الباردة لتخزين العملات المشفرة، وهي محافظ غير متصلة بالإنترنت مما يجعلها أكثر أمانًا من المحافظ الساخنة المتصلة مباشرة بشبكة الإنترنت، كما يجب على المستثمرين توخي الحذر الشديد عند التعامل مع منصات التداول والتأكد من سمعتها والوثوق فيها كل إيداع أموالهم بها.
ولا شك أن انتشار عمليات الاحتيال الاليكترونية تؤثر بشكل سلبي على ثقة المستثمرين في سوق العملات الرقمية المشفرة، والذي قد يعيق نموه وتطوره في الأجل الطويل، كما تؤدي هذه العمليات إلى دفع الحكومات لفرض قيود وضوابط أكثر صرامة على تداول العملات المشفرة، مما قد يحد من حرية التداول التي تُعدُ من أهم مميزات سوق العملات المشفرة.
ولقد بدأت العديد من الشركات في تطوير حلول أمنية متقدمة تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي لكشف الأنشطة المشبوهة في سوق العملات المشفرة من أجل منع عمليات الاحتيال قبل وقوعها، كما تعمل منصات التداول المختلفة للعملات المشفرة على تحسين أنظمة الأمان لديها وتطوير آليات التحقق من هوية المستخدمين للحد من إمكانية اختراق الحسابات وحمياتها من الهجمات السيبرانية.
وختامًا للأمر فإنه نظرًا للطبيعة العابرة للحدود لهذه الجرائم يُعدُ التعاون الدولي عنصرًا هامًا وأساسيًا في مكافحة الجرائم المالية في سوق العملات المشفرة، لذلك يتطلب الأمر تنسيقًا وثيقًا بين الأجهزة الأمنية والجهات التنظيمية في مختلف دول العالم، وقد بدأت العديد من الدول في تطوير أطر قانونية وتنظيمية خاصة بالعملات الرقمية المشفرة، والتي تهدف إلى حماية أموال المستثمرين، وتنظيم عمل منصات التداول الرقمية المشفرة، ويبقى التحدي الأكبر هو تحقيق التوازن بين الحفاظ على طبيعة العملات المشفرة اللامركزية وتوفير الحماية الكافية للمستثمرين من مخاطر السرقة والاحتيال
د / إســــــــلام جــمــــال الـــديـــن شـــــــوقـــي
خـــــبـيـر اقــتصـــــــــــــــادي
عــضـو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي