لطالما شكل الزمن البنية الأساسية للاقتصاد التقليدي فمنذ فجر الأسواق القديمة، ارتبط تحديد قيمة السلع والأرباح والخسائر بدورة الحصاد ومواسم التجارة وأوقات العمل، ومع نشأة الرأسمالية الحديثة، تم تأطير حركة الأموال والبضائع في جداول زمنية صارمة: سنة مالية، أو موسم صيفي، أو موعد جني الأرباح.

لكن مع انفتاح العالم الرقمي وانفجار التداولات المشفرة، بدا وكأن جيلاً جديدًا يفكك هذه العلاقة التاريخية بين المال والزمن، ليخلق اقتصادًا يعمل وفق توقيت فردي يتجاهل إيقاع الليل والنهار، ولا يعترف بعُطل أو أعياد.

أصبحت العملات الرقمية في هذا الاقتصاد الجديد، تعمل بلا توقف، تتقلب قيمتها لحظة بلحظة، حتى أثناء الاحتفالات الرسمية أو في ساعات السكون، ولا تحتاج الآن أن تنتظر صباح الإثنين لتبدأ البورصات، ولا مساء الخميس لإغلاقها، ففي شهر يوليو الماضي سجل مستثمر مصري في القاهرة أرباحًا تجاوزت 12 ألف دولار خلال ساعتين فقط من تداولات عملة مشفرة ارتفعت بسبب تغريدة واحدة من رجل أعمال أمريكي، في الوقت الذي كانت البنوك المحلية مغلقة والنشرات الاقتصادية نائمة، وفي الرياض، استثمر صانع محتوى رقمي في إحدى ألعاب الميتافيرس واستطاع بيع قطعة أرض رقمية لمشتري كندي أثناء صلاة الفجر، عبر صفقة لم تمر بأي مؤسسة تقليدية.

ولم يعد الاقتصاد خاضعًا لإيقاع محدد، فقد تغير سلوك الناس، ولم تعد العائلات تنتظر مواسم الأعياد للتسوق، فقد أصبحت الخصومات الرقمية تظهر بشكل عشوائي، وقد تطلق شركة أمريكية تخفيضات نهاية الصيف في فبراير، أو تعرض منصة آسيوية يوم تخفيضات الشتاء في منتصف أغسطس، والأغرب أن هذه الحملات التسويقية قد تحصد ملايين خلال دقائق، ثم تختفي فورًا كما ظهرت، ولقد ألغت هذه اللحظة فكرة “الموسم والمناسبة”، وولدت فكرة مفهوم التسوق على إيقاع الشخص، لا السوق.

ولنضرب مثل آخر في دول الخليج، اعتاد تجار الذهب مثلًا أن ترتفع مبيعاتهم مع موسم الزفاف الصيفي أو في مواسم الحج والعمرة، أما اليوم فبعض تجار الحلي الرقمية، الذين يصممون مجوهرات NFT، يبيعون أعمالهم في منتصف أكتوبر لزبائن من النرويج والهند وجنوب أفريقيا، بدون علاقة بأي موسم عربي، والمثير أن مبيعاتهم تتفوق أحيانًا على أرباح مواسم الأعراس الحقيقية.

وتفتح هذه الديناميكية سؤالًا ثقافيًا حقيقيًا: كيف ستتأقلم مجتمعات عربية معتادة على دورات زمنية ثابتة مع اقتصاد بلا زمن؟ مجتمعات ترث فيها البيوت توقيتات موسمية: شهر رمضان موسمًا ذهبيًا، والعيد موسمًا للحركة. بل أن دورات مثل مواسم الحصاد، أو افتتاح المدارس، أو الأعياد الرسمية مازالت إلى اليوم تحدد تدفق السيولة وتوقيتها. ماذا سيحدث حين تصبح الثروة مجرد أرقام تتحرك كل ثانية، وتتبدل أسعار العملات والأصول الرقمية أثناء العطلات أو في يوم الوقفة؟

والأكثر إثارة أن اقتصاد اللازمن أنتج معايير جديدة للنجاح المالي، ولم يعد المستثمر الذكي هو من يتقن توقيت البيع والشراء ضمن دورات سنوية أو موسمية، بل من يستطيع قراءة الخوارزميات والإشارات الرقمية المبهمة في لحظة. إن العملات الرقمية لا تنتظر افتتاح بورصة لندن، ولا تغلق عند إعلان عطلة في وول ستريت. وقد تظهر الفرص المالية الجديدة فجأة وتختفي في ثوانٍ. وقد تطلق لعبة إلكترونية نسخة رمزية (NFT) بقيمة 50 دولارًا، وتبيعها بـ 3000 دولار في أقل من نصف ساعة، ثم تنهار قيمتها خلال المساء.

ولقد استطاعت مجموعة شبابية في مصر أن تحقق أرباحًا ضخمة من مشروع تمويل جماعي لصناعة فيلم وثائقي قصير، تم إطلاق حملته منتصف ليلة الجمعة، وفي غضون 12 ساعة حصدت المنصة قيمة تمويلها بالكامل، متجاوزة ما كانت تحققه مشاريع مماثلة في شهور، ولقد أكدت هذه السيولة اللحظية أن الزمن لم يعد معيارًا ضروريًا لنجاح فكرة.

إن المعضلة الأعمق الآن ليست اقتصادية فقط، بل وجودية أيضًا، فحين تختفي الفواصل بين وقت الربح ووقت الخسارة، يصبح الشعور بالامتلاك ذاته موضع تساؤل. كيف يدير الإنسان ثروة لا تنام، ولا تنتظر، ولا تعترف بتقويم ميلادي أو هجري؟ ماذا يعني أن تملك أصولًا رقمية تتقلب قيمتها مئات المرات خلال 24 ساعة؟ هل يمتلكها فعلًا، أم هي لحظة رقمية طارئة؟

عند التمعن في الأدبيات الاقتصادية المعاصرة، سنجد إشارات إلى هذه الظاهرة، لكنها لم تدرس عربيًا بعد بهذا الوضوح. ولقد أشار إلى ما يشبه هذا المفهوم المفكر الأمريكي Yochai Benkler في كتابه The Wealth of Networks، عن إنتاج الثروة من الشبكات اللامركزية خارج النظام الصناعي التقليدي. كما يتلاقى مع فكرة Techno capitalism التي وصفها البعض بأنها رأسمالية تعتمد على السرعة الرقمية أكثر من التخطيط الزمني، ومع فلسفة Immaterial Labor التي تتحدث عن عمل ذهني رقمي يتقاضى أجرًا بلا موعد دوام أو نهاية عمل.

وعلى ما يبدو أن الجيل الجديد يعيد هندسة القواعد الاقتصادية والاجتماعية، خارج معادلة الزمن التي حكمت البشرية قرونًا، وعلينا كمجتمعات أن نعيد التفكير في أدواتنا وتعريفاتنا للثروة والملكية والنجاح، قبل أن نجد أنفسنا في أسواق بلا ساعات ولا تقويم، وفي مقال لاحق، سنتوقف أمام أثر هذا الاقتصاد المتحرر من الزمن على أحكام الزكاة والضرائب والميراث، في محاولة لفهم كيف يمكن للقوانين الدينية والاجتماعية أن تتكيف مع واقع لا يتوقف.

    د / إســــــــلام جــمــــال الـــديـــن شـــــــوقـــي

            خـــــبـيـر اقــتصـــــــــــــــادي

عــضـو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي

إنفينيتي الاقتصادية

ويمكنك متابعة موقع “إنفينيتي الاقتصادية” عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على أحدث التحديثات اليومية لأسعار العملات الأجنبية والعملات العربية مقابل الجنيه، بالإضافة إلى أسعار الذهب في مصر.

ويقدم موقع “إنفينيتي الاقتصادية” مجموعة واسعة من الخدمات تشمل: “أخبار اقتصادية، أخبار محلية، أخبار الشركات المصرية، تحليلات السوق المصرية، الأحداث الاقتصادية المهمة في مصر، أخبار اقتصادية من الدول العربية، تحليلات اقتصادية إقليمية، الأحداث الاقتصادية المهمة في العالم العربي”.

كما يقدم موقع “إنفينيتي الاقتصادية” الأحداث الاقتصادية المهمة على مستوى العالم، بالإضافة إلي خدمات توعوية، مقالات تحليلية، دراسات اقتصادية، إنفوجرافيك، فيديوهات، تحليلات أسواق المال، نصائح استثمارية، أدوات مالية”.