“يا ريتهم بدل ما يصرفوا المليار و200 مليون دولار دول على متحف، كانوا عملوا بيهم كام مصنع يوفر فرص عمل للشباب!”، هذا هو الصوت الأكثر شيوعاً الذي نسمعه في نقاشات القهاوي الساخنة، وعلى صفحات “المعارضة”، وفي التعليقات الفيس بوك.
إنه صوت “الرأي الآخر” الذي يرى أن الدولة أهدرت أموال طائلة في مشروع بلا فائدة اقتصادية “مباشرة”، أو كما يقول أصحاب هذا الرأي: لماذا نبني متحف ضخمة بمثل هذه التكلفة الجنونية، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى مصانع تدعم الإنتاج، أو مشروعات زراعية تضمن الأمن الغذائي؟ يرون أن الإنفاق على متحف في ظل الظروف الاقتصادية الحالية ليس أولوية، بل هو نوع من “الترف” أو “البذخ” كان أولى تحويله إلى قطاعات حيوية توفر فرص عمل وتساعد في زيادة معدلات النمو.
تلك النظرة، تحصل على تعاطف الآلاف وربما تقنع الكثير من المواطنين، لكن لثواني فقط.. دعنا عزيز المواطن نتوقف عن الانطباعات ونتحدث بلغة أخرى، لغة الأرقام.
فالاقتصاد لا يدار بالانطباعات الشخصية ولا يدار وفقًا للأوضاع المعيشية، ولكن بالبيانات والإحصائيات، أو ما يسمى بـ”لغة الأرقام”، فالمتحف المصري الكبير، ليس مجرد مبنى أثري أو مبنى يجمع القطع الآثرية.
عزيزي المواطن هل تعلم أن قطاع السياحة يساهم بنحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي، ويوفر حوالي 15% من موارد الدولة من العملات الأجنبية، ويشغل بشكل مباشر وغير مباشر أكثر من 3 ملايين مواطن.
وفي عام 2024، بلغت إيرادات مصر السياحية حوالي 15.3 مليار دولار، وخلال التسعة أشهر الأولى من العام الجاري، استقبلت مصر 15 مليون سائح، ووصلت الإيرادات إلى رقم تاريخي بلغ 16.7 مليار دولار في السنة المالية 2024-2025، الأرقام تتحدث بوضوح أن قطاع السياحة ليست ترف، بل هو واحد من أهم المحركات الاقتصاد.
كل سائح يدخل مصر وينفق على الفندق، والمطعم، والمواصلات، والهدايا، يحرك عشرات الأنشطة الاقتصادية المرتبطة. والمتحف المصري الكبير وكونه أكبر متحف في العالم يخص حضارة واحدة، هو نقطة جذب عالمية، ترفع متوسط إنفاق السائح وزمن إقامته.
وهنا يأتي دور النظرية الاقتصادية التي تشرح سر الاستثمار في مشروع ضخم مثل المتحف: نظرية “المضاعف الاقتصادي”، فالمتحف المصري الكبير هو استثمار يخلق “قيمة مضافة مستمرة”، فكل دولار ينفق في السياحة لا يتوقف عند ذلك الحد، بل ينتقل لينشئ دخلاً آخر لأشخاص آخرين.
“يعني إيه الكلام ده؟ يعني المليار و200 مليون دولار اللي تم صرفهم على المتحف لن يعودوا مرة واحدة، بل سيعودون أضعافاً مضاعفة على المدى الطويل كإيرادات سياحية مستمرة.”
الحقيقة هي أن فكرة أن الاستثمار الذكي ليس ضد الصناعة والزراعة هي حقيقة اقتصادية راسخة، الاستثمار في السياحة ليس بديلاً عن الاستثمار في الصناعة أو الزراعة، بل هو مكمل لها، فالسياحة توفر إيرادات سريعة من العملة الصعبة، بينما توفر الصناعة والزراعة نمواً مستداماً وطويل الأجل، والاقتصاد القوي هو الذي يجمع بينهما.
في النهاية، عزيزي المواطن لا يمكن لأي دولة أن تبني اقتصاد قوي دون أن تبني لنفسها هوية ثقافية متماسكة، فالهوية هي رأس المال الأول، والتاريخ هو الضمانة الأقوى للمستقبل، ومن يستثمر في تاريخه وثقافته، لا يضيع أمواله، بل يضعها في المكان الذي يدر عليه عائد مادي ومعنوي في نفس الوقت.
الكاتب محمد عبدالرحمن يكتب سلسلة مقالات على موقع “إنفينيتي الاقتصادية” بعنوان “ما بين الواقع والمأمول”، يتناول خلالها الأحداث العامة والاقتصادية بشكل شامل وتحليلي.



