في خضم الحديث عن بطولات حرب السادس من أكتوبر 1973 وعبقرية العبور المصري، يظل هناك جانب خفي من المعركة لم يحظ بالاهتمام الكافي، رغم أنه كان عاملاً حاسمًا في تمهيد الطريق للنصر. إنه سلاح الاقتصاد، ذلك السلاح الصامت الذي استنزف العدو بلا رصاص، وحطم أسطورته المالية قبل أن يحطم خطوطه الدفاعية.
لقد أدركت القيادة المصرية منذ اللحظة التي أقيم فيها “حائط بارليف” أن هذا الجدار الخرساني الذي تغنى به العدو كرمز للأمن المطلق، ليس إلا فخًا يمكن تحويله إلى نقطة ضعف. فقد كانت كلفة بنائه وتحصينه تفوق ما تستطيع إسرائيل احتماله على المدى الطويل، وكل تعديل فيه أو إصلاح لأجزائه المتضررة من القصف كان يعني ملايين الدولارات الإضافية تستنزف من ميزانية دفاع محدودة أصلًا، ولقد تحول الحائط من درع نفسي إلى عبء مالي، وأصبحت إسرائيل تنفق لتحصن نفسها أكثر مما تنفق لتطور قدراتها الهجومية.
إن المعركة المصرية كانت تدار بعقلية الاقتصاد لا بعقلية الحرب، فكل قذيفة تطلق على موقع إسرائيلي كانت تكلف بضعة آلاف من الجنيهات، لكنها كانت تلحق بالعدو خسائر بملايين الدولارات، فكانت هذه المعادلة الاقتصادية جزءًا من استراتيجية أوسع هدفها استنزاف قدرات إسرائيل الإنتاجية، ودفعها إلى حالة من الإنهاك المالي، فبينما كانت القاهرة تعيد بناء جيشها وتطور صناعاتها الدفاعية خطوة بخطوة، كانت تل أبيب تنفق بلا توقف للحفاظ على خطوط دفاعها التي أصبحت كالآلة التي تلتهم الوقود دون توقف.
ولقد خاضت مصر في الداخل واحدة من أعقد تجارب الاقتصاد الحربي في تاريخها الحديث حيث كانت البلاد تخرج من آثار هزيمة 1967، محملة بأعباء اقتصادية هائلة، ومحرومة من مصادر التمويل التقليدية، لكنها اختارت أن تواجه ذلك بالإبداع لا بالانكماش. فالمصانع التي كانت تنتج أدوات منزلية أو مواد استهلاكية جرى تحويلها لإنتاج الذخائر وقطع الغيار، وشركات الغزل والنسيج بدأت في تصنيع الملابس العسكرية والخيام، والورش الصغيرة في القرى والمدن الصناعية تحولت إلى أذرع إنتاجية للجيش، ولقد تحولت الدولة بأكملها إلى ماكينة اقتصادية متكاملة هدفها دعم المجهود الحربي.
ولقد نشأ في الوقت نفسه، ما يمكن تسميته بـ “اقتصاد التضحية”، فلم يكن المصريون يعيشون مجرد حالة من الحماس الوطني، بل كانوا يشاركون فعليًا في تمويل الحرب من خلال سندات الادخار الوطني والتبرعات العامة وحملات جمع الأموال، حيث ساهم ملايين المواطنين في تمويل معدات الجيش والمشروعات العسكرية، وحتى الأطفال في المدارس شاركوا في جمع التبرعات، والنساء نظمن حملات تطوعية لدعم أسر الجنود، ولقد أصبح الاقتصاد الوطني تجسيدًا للوحدة الوطنية، وتحولت كل يد عاملة إلى جندي وكل جنيه إلى طلقة.
وبالرغم من شح الموارد فقد استطاعت مصر أن تدير اقتصادها بكفاءة مدهشة، فالإنتاج المحلي حل محل الواردات في العديد من القطاعات، وتم ضبط الإنفاق العام بدقة شديدة، وجرى توجيه كل فائض مالي نحو بناء القدرات العسكرية والبنية التحتية الحيوية، وفي المقابل كان العدو يعيش حالة إنفاق عسكري متصاعد لا يمكن تحمله على المدى الطويل، ولقد أجبرت إسرائيل على تخصيص ما يقارب 30% من ميزانيتها السنوية للإنفاق العسكري في تلك السنوات، بينما ظلت مصر تحافظ على توازنها المالي قدر الإمكان بفضل سياسة العقلانية التي انتهجتها القيادة الاقتصادية.
أما على الصعيد الإقليمي والدولي، فقد أدركت القاهرة أن الاقتصاد لا يدار داخل حدود مصر فقط، بل على رقعة العالم، فاستثمرت مصر بمهارة في علاقاتها العربية، واستفادت من تنامي الشعور القومي لدعم جبهتها الاقتصادية، ومع بداية السبعينيات بدأت فكرة “سلاح النفط” تلوح في الأفق، لتتحول فيما بعد إلى أداة ضغط حقيقية استخدمها العرب في حرب أكتوبر لتغيير ميزان القوى العالمي، ولقد كانت هذه الخطوة امتدادًا طبيعيًا لمنهج التفكير الاقتصادي الاستراتيجي الذي ميز مصر منذ سنوات الاستنزاف.
وفي خضم هذه التحولات، فقد ولد مفهوم جديد في الفكر الاقتصادي المصري: “الأمن الاقتصادي القومي”، ولم يعد الاقتصاد مجرد وسيلة للعيش، بل أصبح جزءًا من منظومة الدفاع الوطني، ولقد فهمت القيادة أن أي نصر عسكري بدون قاعدة اقتصادية صلبة سيكون انتصارًا مؤقتًا. ولذلك، فقد تم بناء المصانع القومية الكبرى، وتوسيع شبكة الطرق وخطوط الإمداد، وتطوير التعليم الفني لتخريج كوادر قادرة على دعم الجبهة الإنتاجية حيث كانت تبدو هذه المشروعات للوهلة الأولى تنموية بحتة، لكنها في الحقيقة كانت جزءًا من خطة حرب طويلة المدى.
إن المعركة قد حسمت اقتصاديًا قبل أن تبدأ عسكريًا، فحين جاء يوم السادس من أكتوبر دخلت مصر الحرب وهي تعرف أن تكلفة الهجوم أقل بكثير من تكلفة الدفاع الإسرائيلي، فلقد كان كل صاروخ يطلق على خط بارليف يدمر ليس فقط موقعًا، بل جزءًا من ميزانية العدو، ولقد عبرت الدبابات القناة، لكن ما عبر فعليًا هو منظومة اقتصادية كاملة أثبتت أن التخطيط والصلابة والوعي يمكن أن يصنعوا نصرًا قبل المعركة.
إن التجربة المصرية في حرب أكتوبر قدمت درسًا خالدًا في معنى الاقتصاد المقاوم، وكيف يمكن لبلد محدود الموارد أن ينتصر على خصم يملك التفوق التكنولوجي والمالي، فلقد كان النصر في جوهره انتصارًا للعقلانية الاقتصادية، حيث تحول المال إلى سلاح والفكر المالي إلى أداة ردع، فكما قال أحد قادة تلك المرحلة: “لقد قاتلنا بعقولنا قبل أن نقاتل بسلاحنا”.
وبعد عقود من الحرب فنحن اليوم نعيد قراءة تلك المرحلة، حيث ندرك أن مصر لم تنتصر فقط في معركة 1973، بل في نموذجها الفريد الذي دمج بين الإرادة الوطنية والسياسة الاقتصادية الذكية، ولقد كان الاقتصاد هو الخندق الأول، والمواطن هو الجندي المجهول في حرب الاستنزاف المالي التي أنهكت العدو ومهدت الطريق لواحد من أعظم انتصارات الأمة العربية في القرن العشرين.
د / إســــــــلام جــمــــال الـــديـــن شـــــــوقـــي
خـــــبـيـر اقــتصـــــــــــــــادي
عــضـو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي
إنفينيتي الاقتصادية
ويمكنك متابعة موقع “إنفينيتي الاقتصادية” عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على أحدث التحديثات اليومية لأسعار العملات الأجنبية والعملات العربية مقابل الجنيه، بالإضافة إلى أسعار الذهب في مصر.
ويقدم موقع “إنفينيتي الاقتصادية” مجموعة واسعة من الخدمات تشمل: “أخبار اقتصادية، أخبار محلية، أخبار الشركات المصرية، تحليلات السوق المصرية، الأحداث الاقتصادية المهمة في مصر، أخبار اقتصادية من الدول العربية، تحليلات اقتصادية إقليمية، الأحداث الاقتصادية المهمة في العالم العربي”.
كما يقدم موقع “إنفينيتي الاقتصادية” الأحداث الاقتصادية المهمة على مستوى العالم، بالإضافة إلي خدمات توعوية، مقالات تحليلية، دراسات اقتصادية، إنفوجرافيك، فيديوهات، تحليلات أسواق المال، نصائح استثمارية، أدوات مالية”.