تعد العلاقات المصرية التركية ذات طبيعة خاصة حيث تمتد جذور تلك العلاقات بين البلدين عبر قرون من التاريخ المشترك فمصر كانت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية مما ترتب عليه تأسيس علاقات وروابط قوية بينهما، ومع تفكك الإمبراطورية في أوائل القرن العشرين وظهور الدول الحديثة شهدت العلاقات بين مصر وتركيا أشكالًا مختلفة خلال القرن الماضي متأثرةً بتقلبات السياسة والاقتصاد في منطقة الشرق الأوسط فمرت بفترات من التقارب والتباعد عاكسةً التحولات الجيوسياسية في المنطقة.
ولقد مرت العلاقات بين مصر وتركيا في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين بمراحل متباينة حيث شهدت العلاقات فترة من التقارب والتعاون الاقتصادي المتزايد، إلا أن الأحداث السياسية التي حدثت في مصر عام 2013 أدت إلى توتر العلاقات بين البلدين، حيث اتخذت تركيا موقفًا معارضًا للتغييرات السياسية في مصر، مما أدى إلى حدوث حالة من التوتر أثرت بالسلب على العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين البلدين استمرت لعدة سنوات، إلا أن تركيا راجعت من مواقفها وبدأت الانفراجة تظهر في السنوات الأخيرة مع إدراك كلًا من مصر وتركيا لأهمية التعاون المشترك في مواجهة التحديات الإقليمية والاقتصادية.
إن الهدف من الاستعراض السابق لتاريخ العلاقات المصرية التركية وتطورها الحالي يكشف عن عمق الروابط بين البلدين وأهمية تعزيزها من أجل تحقيق صالح الشعبين، وفي ظل المستجدات التي تحدث في منطقة الشرق الأوسط والتحديات الاقتصادية والأمنية المتزايدة على ما يبدو أن البلدين قد وجدا سبيلًا للمضي قُدمًا نحو التقارب والتعاون لتحقيق مستقبل أكثر ازدهارًا واستقرارًا.
ولقد شهدت العلاقات المصرية التركية في الآونة الأخيرة تحولاً جذريًا والتي توجت بزيارة تاريخية قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى أنقرة في الرابع من الشهر الجاري، وتُعدُ هذه الزيارة هي الأولى للرئيس السيسي منذ توليه الحكم قبل عشر سنوات، بعد فترة من التوتر والفتور وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، خاصة في المجال الاقتصادي حيث شهدت هذه الزيارة نقطة تحول محورية في مسار العلاقات بين مصر وتركيا حيث تم توقيع 18 اتفاقية في مختلف المجالات وتم انعقاد الاجتماع الأول لمجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى بين البلدين.
ففي المجال الاقتصادي تبرز أهمية هذا التقارب في الاتفاق على هدف محدد وطموح يتمثل في رفع حجم التبادل التجاري بين الدولتين إلى 15 مليار دولار سنويًا، وهو ما يمثل زيادة كبيرة مقارنةً بالوضع الحالي البالغ حوالي 10 مليار دولار، فعلى صعيد التجارة الحرة تم بحث تحديث اتفاقية التجارة الحرة القائمة بين البلدين بهدف تعزيز التبادل التجاري وتسهيل حركة السلع والخدمات بين البلدين مع بحث إمكانية استخدام الجنيه والليرة التركية في التجارة الثنائية في الفترة المقبلة لخفض الطلب على الدولار في البلدين لمعانتهما من نقص الدولار مما يعكس الإرادة السياسية القوية لتعزيز أواصر العلاقات الاقتصادية وتحقيق نقلة نوعية في مستوى التعاون التجاري بين الدولتين حيث تُعدُ مصر من بين أكبر خمسة شركاء تجاريين لتركيا، وهو ما يشير إلى الأهمية الاستراتيجية للعلاقات الاقتصادية بين الدولتين وتشير إلى إمكانات هائلة للنمو في المستقبل.
أما فيما يخص المجال الاستثماري فقد بلغت الاستثمارات التركية في مصر 3 مليار دولار، حيث تسعى تركيا جاهدةً لتعزيز استثماراتها في مصر حيث تحتل مصر المرتبة الـ 19 من حيث قيمة الاستثمار التركي المباشر في الخارج بقيمة 294 مليون دولار، بينما تحتل مصر في المقابل المرتبة ال 36 في حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة القادمة إلى تركيا بمبلغ 45 مليون دولار، مما تشير هذه الأرقام إلى وجود فرص كبيرة لزيادة التدفقات الاستثمارية في الدولتين، وتجدر الإشارة إلى أن هناك حوالي 1700 شركة تركية تعمل حاليًا في مصر، كما تتطلع مصر إلى جذب استثمارات تركية جديدة بقيمة مليار دولار خلال العام والنصف القادمة، خاصةً في مجالات الأجهزة الكهربائية والملابس، ويأتي هذا التوجه ليعكس رغبة مصر في الاستفادة من الخبرات التركية في هذه المجالات وتعزيز قدراتها التنافسية هذا من جانب.
ومن جانب آخر هناك رؤية طموحة لدى مصر لتحقيق قفزة نوعية في حجم التبادل التجاري غير النفطي مع تركيا بنسبة تصل إلى 25% ليبلغ 8 مليار دولار في العام القادم مما يعكس الرغبة المشتركة في تعميق العلاقات الاقتصادية وتنويعها، وعند النظر إلى هيكل الصادرات المصرية إلى تركيا نجد أن المنتجات الصناعية هي المهيمنة على النسبة الأكبر منها في حين لا تتجاوز الصادرات البترولية 12% من الإجمالي، ويشير هذا التنوع إلى تطور هائل وملحوظ في القدرات الإنتاجية المصرية وقدرتها على المنافسة في الأسواق الخارجية.
وعند انتقالنا للحديث عن مجال الطاقة فقد أعرب الرئيس التركي عن رغبة بلاده في تحسين التعاون مع مصر في مجال الطاقة وخاصةً في مجال الغاز الطبيعي والطاقة النووية، ويأتي هذا التوجه في إطار الاستراتيجية التركية لتنويع مصادر الطاقة وتعزيز دورها كمركز إقليمي لتوزيع الغاز إلى أوروبا، كما تسعى تركيا لاستيراد الغاز الطبيعي المسال من مصر، مما قد يفتح آفاقًا جديدة للتعاون في هذا المجال الحيوي خاصةً في ظل الوقت الذي تشهده المنطقة من تحديات جمة تستدعي توحيد الجهود وبناء شراكات قوية قادرة على التأثير في معادلات المنطقة .
وفي مجال النقل والمواصلات يتم التخطيط لإعادة تشغيل خطوط الشحن البحري بين ميناء مرسين التركي وميناء الإسكندرية المصري، وتُعدُ هذه الخطوة الهامة من شأنها أن تعزز التبادل التجاري وتسهل حركة نقل البضائع بين البلدين، كما يتم التوجيه إلى زيادة عدد الرحلات الجوية وتسهيل عمل شركات الطيران لتعزيز التعاون في مجال الطيران المدني مما يساهم في تعزيز حركة السياحة والتجارة بين الدولتين.
تبرز العلاقات المصرية التركية كنموذج للتعاون الاستراتيجي متعدد الأوجه وفي خضم تلك التحولات الجيوسياسية والاقتصادية التي تشهدها المنطقة، تأتي الصناعات الدفاعية لتفتح آفاقًا جديدة للتعاون حيث تتطلع تركيا إلى توسيع قاعدة عملائها في مجال الطائرات بدون طيار والمركبات المدرعة، ويتزامن هذا التوجه مع الاهتمام المتزايد في منطقة الشرق الأوسط بتطوير القدرات الدفاعية مما يجعل هذا المجال واعدًا للتعاون في المستقبل بين الدولتين.
ولعل ما يميز هذه المرحلة الجديدة من العلاقات المصرية التركية هو وجود رؤية شاملة يتبناها الطرفان، ويتضح ذلك من خلال البيان المشترك الصادر عقب اجتماع مجلس التعاون الاستراتيجي والذي أكد على ضرورة تعزيز المشاريع الاقتصادية المشتركة وفرص الاستثمار المتبادل بين الدولتين، ولا يهدف هذا النهج الجديد إلى تحقيق التكامل الاقتصادي بين البلدين فقط، بل يتخطاه إلى طموح أكبر بكثير يتمثل في تعزيز الصادرات المشتركة إلى أسواق أفريقيا وأوروبا والعالم.
وتجدر الإشارة إلى أن التركيز على تعزيز التواصل المباشر بين مجتمعي الأعمال في البلدين من خلال المؤتمرات والمعارض وتبادل الوفود التجارية بين البلدين يهدف إلى ترجمة الاتفاقيات السياسية إلى خطوات عملية وواقع ملموس، مما يساعد على فتح قنوات جديدة للاستثمار والتعاون بين البلدين، وفي ظل التحديات البيئية التي يواجهها العالم لم تغفل كلٍ من مصر وتركيا أهمية البعد البيئي في العلاقات الثنائية وضرورة التضافر والتعاون في مجال حماية البيئة والتصدي للتغيرات المناخية مما يعكس وعيًا متزايدًا بأهمية القضايا البيئية.
وفي نهاية الأمر فإنه يمكننا القول إن زيارة الرئيس السيسي إلى تركيا قد فتحت صفحة جديدة في العلاقات بين الدولتين خاصةً في المجال الاقتصادي والذي يحمل بين طياته فرصًا كبيرة للتعاون والشراكة في مختلف المجالات والتي من بينها الاستثمار والتجارة، والصناعة والتكنولوجيا، والطاقة، والدفاع، والبيئة.
وبالتالي فإن تحقيق الأهداف الطموحة التي تم وضعها من كلا الجانبين سيتطلب جهودًا حثيثة لتحقيقها سواء على المستوى الحكومي أو على مستوى القطاع الخاص، كما أنه سيكون من الهام جدًا متابعة تنفيذ الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي تم توقيعها خلال الزيارة وتذليل أي عقبات قد تواجه هذا التقارب الذي سيعود بالنفع ليس على مصر وتركيا فقط، بل يمتد ليشمل تأثيره الإيجابي على المنطقة ككل حيث يمكن لهذا التقارب الاقتصادي أن يساهم في تحقيق التنمية والاستقرار على مستوى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ولا شك أنه هناك تحدي كبير وهو كيف يتم ترجمة الطموحات والاتفاقيات السابقة إلى واقع ملموس يجني ثماره كلا البلدين من أجل تلبية تطلعات وطموحات كلا الشعبين، وهو ما يستدعي ضرورة استمرار العمل على إجراء الحوار والتنسيق بين كافة المستويات المختلفة والعمل المستمر على تهيئة البيئة المواتية لنمو العلاقات الاقتصادية بين كلٍ من مصر وتركيا.
د / إســلام جمــال الديـن شـــوقي
خـبـيـر اقــتصـــــادي
عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي