في لحظات التحول لا تتحدث الشعوب بلغة واحدة فحسب، بل تنطق من قلب واحد، وما يحدث في المغرب اليوم ليس مجرد احتجاجات عابرة، بل هو صوت إقليمي قد يتردد صداه في العواصم العربية فالتاريخ دائمًا ما يعيد نفسه، وربما ما يحدث الآن في المغرب يوقظ الذاكرة، ويطرح سؤالًا مرعبًا: هل يعود شبح الثورة ليحوم فوق القاهرة من جديد؟
أيها السادة أصبح السؤال الحقيقي الآن لماذا لم تنطلق الاحتجاجات التي اجتاحت مدن المغرب، من مقرات الأحزاب ولا من بيانات النقابات، بل من هواتف جيل جديد من الشباب، يتحرك ويحشد ويغضب خلف شاشات صغيرة ويصنع “وسم” أو هشتاج #GenZ212 لتكون شرارة تشعل الميادين، حيث رفع الشباب شعارًا بسيطًا لكنه عميق: “جيلنا ما يسكتش”.
هذا الجيل لا ينتظر إذن ولا يطلب ترخيص للاحتجاج بل يتحرك دون مواءمات سياسية، وهنا يجب أن نتوقف قليلًا لأن ما يحدث في المغرب ليس شأنًا محليًا، بل جرس إنذار إقليمي، يذكرنا أن الغضب الشعبي لا يعرف الحدود، وأن الثورات، مثل الأوبئة، لا تحتاج جواز سفر لتنتقل.
حين ننظر إلى المشهد السياسي والاقتصادي المصري، نجد أن الأعراض ذاتها موجودة، بل ربما أكثر حدة، فالأوضاع الاقتصادية الخانقة، التفاوت الطبقي، غياب العدالة الاجتماعية، وانسحاب السياسة من حياة الناس، فالمواطن المصري، مثل المغربي، يشعر أن الدولة لا تراه، وأن المؤسسات لا تسمعه، وأن النخب السياسية تحولت إلى دوائر مغلقة من أصحاب المصالح.
لا أحزاب تمارس دورها الحقيقي، لا مجالس نيابية تراقب وتحاسب، لا إعلام ينقل صوت الناس، ولا حكومة تستمع إلا لصدى صوتها، أما النخب، فقد تحولت إلى وجوه مكررة، تعيش في عزلة عن الواقع.
وهنا يظهر ما يمكن تسميته بـ “الفراغ الخطير”، ذلك الفراغ الذي لا يبقى فارغًا إلى الأبد، بل يملؤه في النهاية صوت الشارع، حين يخرج الناس مطالبين بالتغيير، لا بدافع الفوضى، بل بدافع استعادة التوازن.
إذا أردنا أن نقرأ الواقع بعيدًا عن الشعارات، فالأرقام تكشف لنا أن مصر تقف على أرض أكثر هشاشة من المغرب:
- البطالة: 6.1% في مصر مقابل 11% في المغرب.
- الدين العام: تجاوز 90% من الناتج المحلي في مصر، مقابل 70% في المغرب.
- التضخم: تراجع إلى 12% في مصر، مقارنة بـ 8% فقط في المغرب.
- متوسط الدخل الشهري في مصر يتفاوت بين 118 : 150 دولار شهريًا، بينما التقديرات تشير في المغرب إلى أنه يتراوح بين حوالي 393 دولار.
- نسبة الفقر: أعلن تقرير للبنك أن نحو 66.2% من سكان مصر يعيشون تحت خط الفقر العالمي، بينما التصريحات الحكومية تشير إلي أن نسبة الفقر في مصر أقل من 30%، بينما في المغرب تصل إلي 6.8%.
هذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات اقتصادية، بل إشارات حمراء تنذر بانهيار القدرة الشرائية، وتآكل الطبقة الوسطى، وتحول الحياة اليومية إلى معركة بقاء.، فالتعليم الجيد أصبح امتيازًا للأغنياء، والرعاية الصحية تحولت إلى رفاهية، والسكن صار عنوانًا للفجوة الطبقية.
وفي ظل هذا الواقع، يصبح غضب الفقراء حقًا مشروعًا، لأن الثورات ليست فوضى، بل محاولة لإعادة توزيع الخسائر والمكاسب حين تختل الموازين.
أيها السادة، التاريخ لا يرحم والثورات لا تطلب إذنًا قبل أن تندلع لكن مصر اليوم ليست بحاجة إلى ثورة جديدة بقدر ما تحتاج إلى إصلاح شامل، يقوده الرئيس بنفسه لتضع المواطن في قلب المعادلة وتعيد بناء الثقة بين الدولة والناس.
نحن بحاجة إلى نهاية حقيقية لعصر الأحزاب الكرتونية، والوجوه المستهلكة، والحناجر الكاذبة، نحتاج إلى وجوه جديدة، تحمل مشروعًا حقيقيًا للتغيير، نحتاج إلى برلمان يعكس الشارع، لا يكرر نفسه في كل دورة انتخابية، ولا يمنح المقاعد نفسها لرجال أعمال وأصوات اعتادت أن تأكل على كل الموائد.
المطلوب برلمان حقيقي، يضم مختلف الأطياف، ويعكس تطلعات الناس، لا أن يبقى مجرد مسرحية لتوزيع الكراسي بين أحزاب فقدت معناها، ووجوه فقدت احترام الناس.
نحن بحاجة إلى حكومة جديدة تعكس أولويات المواطن: “صحة أفضل، تعليم جاد، فرص عمل تحفظ الكرامة. لا مجال لوزراء فقدوا ثقة الشارع، ولا لبرلمان يدار خلف الأبواب المغلقة.”
ما يحدث في المغرب ليس بعيدًا عن مصر وربما تكون رسالة إنذار تقول:” الشعوب قد تصبر، لكنها لا تصمت إلى الأبد، والاستقرار لا يشترى بالشعارات، ولا يفرض بالقوة، بل يبنى بالعدل والكرامة والفرص الحقيقية.”
فهل نسمع الرسالة قبل أن يعلو الصوت؟ وهل نتحرك قبل أن يتحرك الشارع؟ الجواب لا يكتب في المقالات، بل يصاغ في قرارات حقيقية، وفي إرادة سياسية تضع الوطن فوق كل اعتبار.
وفي الختام أقول: “الأوضاع الإقليمية المحيطة بالدولة المصرية لا تحتمل أي مغامرة أو محاولة لزعزعة الاستقرار، فمصر اليوم تقف في قلب منطقة مضطربة، وهي بحاجة إلى حماية استقرارها الداخلي بكل الوسائل الممكنة.
ومع ذلك، فإن الاستقرار الحقيقي لا يبنى بالصمت، بل بالإصلاح، ولا يتحقق بالأمن فقط، بل بالعدالة والشفافية والمشاركة السياسية، نحن بحاجة إلى المزيد والمزيد من الإصلاح، لأن لا سبيل آخر أمامنا سوى الإصلاح.
سيادة الرئيس، نحن بحاجة إلى حكومة جديدة، بوجوه جديدة، ومساحة حقيقية للمعارضة الوطنية، ولأصوات عاقلة تحمل هم الوطن لا مصالحها، نحن بحاجة إلى تجديد الدماء، إلى إعادة الثقة، إلى فتح النوافذ المغلقة أمام جيل جديد يريد أن يشارك لا أن يقصى أو يهمش.”
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الكاتب محمد عبدالرحمن يكتب سلسلة مقالات على موقع “إنفينيتي الاقتصادية” بعنوان “ما بين الواقع والمأمول”، يتناول خلالها الأحداث العامة والاقتصادية بشكل شامل وتحليلي.