بدأ الذكاء الاصطناعي منذ لحظة ولادته خارج جدران المعامل في التحرك كقوة اقتصادية لا يمكن تجاهلها، ولم يعد الأمر قاصرًا على مجرد برمجيات تتنبأ بما نود مشاهدته أو روبوتات تتحدث بطريقة مدهشة، بل أصبح الذكاء الاصطناعي حاضرًا في قرارات البنوك المركزية، وفي استراتيجيات الشركات العملاقة، بل وحتى في صراعات النفوذ بين القوى الكبرى، ولم يعد الاقتصاد العالمي اليوم كما كان منذ 5 سنوات فقط، وتلك السرعة نفسها أصبحت أحد ملامح التحول القادم.
استقبل العالم الذكاء الاصطناعي بحماسة شديدة في بداية الأمر، حيث تم إطلاق الوعود بإنتاجية أعلى، وبتكاليف أقل، وبتكنولوجيا ستجعل حياتنا أسهل، ولكن مع مرور الوقت بدأت تلوح في الأفق أسئلة صعبة الإجابة، ماذا عن ملايين الوظائف التي أصبحت مهددة؟ ماذا عن الدول التي لا تمتلك بنية تحتية تكنولوجية؟، وهل يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي سببًا في اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء؟ أم أنه سيكون بمثابة بوابة جديدة للعدالة الاقتصادية وخلق فرص عمل غير مسبوقة؟
وتُعدُ الشركات الكبرى أول من تنبه لضرورة التغيير، حيث بدأت شركات التكنولوجيا والتمويل والخدمات في استخدام الذكاء الاصطناعي ليس فقط لتحسين الأداء، ولكن لاستبدال الموظفين بأنظمة آلية، فعلى سبيل المثال في البنوك أصبح من المعتاد أن يتولى روبوت تحليل بيانات العملاء، وتقييم الجدارة الائتمانية، وحتى الرد على استفساراتهم، ولقد وفر هذا التوجه مليارات الدولارات، لكنه أيضًا قضى على آلاف الوظائف البشرية، وخاصةً في مجال المهن الروتينية.
وفي مقابل الأمر ليست الصورة سوداوية بالكامل، حيث ظهرت وظائف جديدة لم تكن موجودة من قبل، مثل مطوّرو الخوارزميات، ومهندسو البيانات، وخبراء أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، ومصممون لتجربة المستخدم في الأنظمة الذكية، وتُعدٌ هذه الوظائف في الغالب الأعلى أجرًا، وتتطلب مهارات متقدمة، مما خلق طبقة جديدة من العاملين ذوي الكفاءة العالية.
ولم تقتصر هذه التحولات على سوق العمل، بل طالت التوازنات الاقتصادية بين الدول، ولقد بدأت الدول التي استثمرت مبكرًا في الذكاء الاصطناعي تجني ثمار استثمارها محققةً نمو اقتصادي متسارع، وجذب استثمارات، وتحكم في التكنولوجيا نفسها، ولقد تصدرت المشهد كلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية، والصين، بينما تحاول أوروبا اللحاق بهما، وتبقى باقي الدول بما في ذلك كثير من الدول العربية في موقع المتلقي، إن لم تبادر سريعًا لتطوير قدراتها.
لقد أصبح الذكاء الاصطناعي سلاحًا ذا حدين: إما فرصة هائلة للنهوض باقتصادات متأخرة، أو وسيلة جديدة لزيادة الفجوة بين الدول المتقدمة والدول النامية، حيث الدول التي تمتلك أنظمة تعليم مرنة، وشركات تكنولوجية نشطة، وتسهيلات للاستثمار في الابتكار، وهي الأقدر على الاستفادة من تلك الإمكانات، أما من يقف متفرجًا، فقد يجد نفسه يستهلك منتجات الآخرين دون أن يمتلك القدرة على المنافسة.
والتحدي الذي يفرض نفسه وبقوة، والذي يجب أن يتعامل معه العالم الآن، هو السؤال عن العدالة، من سيستفيد من ثمار هذه الثورة؟ هل سيُعاد توزيع الفرص والثروات بشكل أكثر إنصافًا، أم سيُعاد إنتاج نظام اقتصادي جديد أشد قسوة؟ هناك مخاوف حقيقية من أن الذكاء الاصطناعي إذا تُرك دون رقابة، قد يؤدي إلى تركيز الثروة في يد قلة تملك التقنية والبنية التحتية، بينما تزداد معاناة الفقراء والطبقات الوسطى.
ويمكن القول إنه بالنسبة للدول النامية فإن السباق لا يزال في بدايته، فبعض الدول أدركت مبكرًا أهمية الاستثمار في الذكاء الاصطناعي، وبدأت في إعداد استراتيجيات وطنية لتطويره، بينما لا تزال دول أخرى عالقة في نقاشات البنية التحتية والتمويل، لكن الأمل لا يزال قائمًا، بل هو أكبر من أي وقت مضى، فبعكس الثورات الصناعية السابقة، فإنه يمكن للدول النامية أن تلتحق بالركب إذا ما استثمرت بذكاء في التعليم، والشراكات البحثية، والتشريعات الذكية.
وختامًا للأمر فنحن نعيش لحظة فاصلة قد يكون فيها الذكاء الاصطناعي بداية لمرحلة أكثر عدالة، يشارك فيها الجميع في الثروة والمعرفة، وقد يكون بداية لانقسام جديد إذا أُسيء استخدامه، بين من يملكون التكنولوجيا ومن يقعون تحت وطأتها، فالاقتصاد العالمي في حالة تحول، والذكاء الاصطناعي هو المحرك الأكبر لهذا التغيير.