في واقع الأمر إنه في ضوء التطورات الاقتصادية والسياسية الأخيرة على الساحة العالمية أرى أن الوقت الحالي يمثل فرصة استثنائية للاستثمار في الذهب، وهذا الرأي يستند إلى تحليل للعوامل الاقتصادية والجيوسياسية التي تشكل المشهد الاستثماري العالمي مع التركيز بشكل خاص على ديناميكيات سوق الذهب وبالتالي فإن قرار الاستثمار في الذهب يرجع إلى العديد من الأسباب:
أولًا: قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الأخير بخفض سعر الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس يُمثِل تحولاً جوهريًا في السياسة النقدية له بعد التثبيت لمدة عامين ونصف تقريبًا مما كان له تداعيات كبيرة على الأسواق العالمية وخاصةً في أسواق الذهب وهذا الانخفاض في أسعار الفائدة يقلل من تكلفة الفرصة البديلة لحيازة الذهب مما يجعله أكثر جاذبية كأصل استثماري، وكما هو ثابت تاريخيًا فإنه هناك علاقة عكسية قوية بين أسعار الفائدة الحقيقية وأسعار الذهب فعلى سبيل المثال خلال فترة التيسير الكمي بعد الأزمة المالية العالمية في 2008 ارتفعت أسعار الذهب بأكثر من 150% بين عامي 2008 و2011.
بالإضافة إلى ذلك فإن خفض أسعار الفائدة يميل إلى إضعاف الدولار الأمريكي مقابل العملات الرئيسية الأخرى مما يجعل الذهب أرخص بالنسبة للمستثمرين خارج الولايات المتحدة، مما يزيد من الطلب العالمي عليه، كما أن السياسة النقدية التيسيرية قد تؤدي إلى زيادة توقعات التضخم على المدى المتوسط والطويل، وهو ما يعزز من مكانة الذهب كأداة ممتازة للتحوط ضد التضخم.
ثانيًا: الوضع المتوتر في منطقة الشرق الأوسط والقرن الأفريقي يضيف بُعدًا آخر لجاذبية الذهب كأداة استثمار استراتيجية لأن أي تصعيد في هذه المناطق قد يؤدي إلى ارتفاع حاد في أسعار النفط، مما يخلق ضغوطًا تضخمية عالمية، وكما هو ثابت تاريخيًا فإن أسعار الذهب ارتفعت بنسبة تتراوح بين 5% و10% خلال فترات التوتر الشديد في الشرق الأوسط سابقًا، كما أن هذه التوترات تضعف الثقة في العملات المحلية مما يدفع المستثمرين المحليين والإقليميين نحو الاتجاه إلى الذهب كملاذ آمن.
ثالثًا: مشتريات البنوك المركزية من الذهب حيث إنه لوحظ في السنوات الأخيرة أن البنوك المركزية زادت مشترياتها من الذهب خاصةً في الأسواق الناشئة، فعلى سبيل المثال في عام 2024 ارتفع الطلب على الذهب من قبل البنوك المركزية بشكل كبير فقد قفز من 286.21 طن في الربع الأول من 2023 إلى 299.94 طن في الربع الأول 2024، بنسبة ارتفاع 4.80%، وفي الربع الثاني ارتفع من 173.63 طن إلى 183.39 طن بنسبة 5.62%، وهو الأمر الذي يوضح العلاقة الطردية بين الأزمات والتوترات الجيوسياسية في عام 2024 وبين الطلب العالمي على الذهب.
ويشير هذا الطلب المتزايد من البنوك المركزية إلى تحول استراتيجي في نظرة صناع السياسات العالميين تجاه الذهب حيث يأتي إقبال البنوك المركزية على شراء المعدن النفيس رغبةً في تنويع احتياطاتها؛ للحماية من التقلبات الاقتصادية والتوترات الجيوسياسية الحالية، مما يجعله يُستخدم للتحوط من التضخم، وبالإضافة إلى ذلك يُعد الذهب أقل تأثُرًا بالمخاطر السياسية، فمن هنا يُساعد الدول التي تُفرض عليها عقوبات اقتصادية في الحفاظ على سيولتها وأدائها الاقتصادي.
وبناءً على التحليل السابق فإني أقترح إعادة النظر في استراتيجيات الاستثمار في الذهب من خلال الآتي:
1 – اعتماد استراتيجية الشراء التدريجي بدلاً من استثمار مبلغ كبير دفعة واحدة، وذلك لتقليل مخاطر توقيت السوق.
2 – من المهم التنويع في أشكال الاستثمار في الذهب بما في ذلك الذهب المادي وصناديق المؤشرات المتداولة (ETFs) المدعومة بالذهب، وأسهم شركات تعدين الذهب.
كما أنني انصح بالمراجعة الدورية وإعادة توازن المشتريات لكل فرد أو مؤسسة أو صناديق لضمان الحفاظ على النسبة المستهدفة للذهب حيث يمكن النظر في زيادة الاستثمار في الذهب خلال فترات التراجع في الأسعار للاستفادة من التقلبات السوقية، وتجدر الإشارة إلى أن الظروف الحالية تقدم فرصة استثنائية للاستثمار في الذهب نتيجة التحول في السياسة النقدية العالمية مقرونةً بالتوترات الجيوسياسية المتصاعدة، مما يخلق بيئة مواتية لارتفاع أسعار الذهب على المدى المتوسط والطويل، ومع ذلك من المهم التأكيد على أهمية اتباع نهج متوازن في الاستثمار والنظر إلى الذهب كجزء من استراتيجية استثمارية شاملة ومتنوعة.
وفي الختام فإنني أنصح المستثمرين بمراقبة التطورات الاقتصادية والجيوسياسية عن كثب، والاستعداد لتعديل استراتيجياتهم الاستثمارية وفقاً للمستجدات حيث يبقى الذهب أداة استثمارية قيمة للحفاظ على الثروة وتحقيق الاستقرار في المحافظ الاستثمارية خاصةً في أوقات عدم اليقين الاقتصادي والسياسي.
د / إسلام جمال الدين شوقي
خبير اقتصادي
عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي