بينما كنت أتهيأ لكتابة مقال بعنوان “ماكرون ليس المخلص… لا تبيعوا الأوهام للعامة”، وبينما أتابع باستهجان صراعات بعض الزملاء الصحفيين على من صاحب السبق “الانفراد” في انتقال لاعب كرة قدم، وبينما كنت أسترجع صورة محمد حسنين هيكل، الذي كان يفهم أبعاد كل كلمة يقولها ولا ينطق إلا بمسؤولية رجل يعرف وزن الحرف أمام صناع القرار ويحترم عقول الناس.. جاءني زميل صحفي يصرخ بصوت عالي: “انفراد ياريس بكره رفع أسعار الوقود”.
بحثت قليلًا، كل المواقع نشرت الخبر، وكل الصحف توقعت القرار، حتى موقعنا تحدث عنه نقلاً عن خبراء ومسؤولين، لم أندهش، لم أشعر بأهمية “السبق” الذي يلوح به البعض بفخر، بل فكرت فورًا في المواطن البسيط، ماذا سيفعل محدود الدخل الذي يحاصره الغلاء من كل جانب؟
ماذا عن الموظف الذي ينتهي راتبه في أول أسبوع؟
ماذا عن سائق التاكسي أو عامل اليومية الذي سيضطر إلى رفع أجرته، ليلاحقه المواطن الغلبان في دائرة لا تنتهي من الغلاء؟
نعم، كان القرار متوقعًا، في ضوء ترتيبات الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولي، والتزامها برفع الدعم التدريجي عن الوقود.
لكن، هل كان التوقيت مناسبًا؟
المنطقة تغلي صراعات مسلحة وحروب على كافة الاتجاهات الاستراتيجية للدولة، أزمات اقتصادية عالمية وحروب تجارية، وداخليًا أصبحنا جميعًا على وشك الانفجار من تردي الأوضاع الاقتصادية، وسياسيًا إنائى بنفسي أن أتحدث عن نواب وأحزاب “زيرو قبول” لدى الجميع بما فيهم صناع القرار.
قرار رفع الحكومة أسعار البنزين بمختلف أنواعه جنيهين للتر، والسولار أيضًا زاد جنيهين، وقفزت أسطوانة البوتاجاز خمسين جنيهًا، لا يمر مرور الكرام، بل يترك جراحًا في جيوب الناس، وربما في نفوسهم أيضًا.
رفع أسعار البنزين والسولار واسطوانة البوتاجاز بهذا الشكل له آثار قاسية ومباشرة على المواطن البسيط، كل شيء سيرتفع ثمنه: النقل، المواصلات، أسعار السلع الغذائية، الخضروات، حتى فاتورة توصيل الطلبات.
التضخم سيواصل ضرباته القاسية، والدائرة المفرغة التي يعيشها المواطن ستضيق أكثر، الفقراء أول من سيدفعون الثمن، والطبقة الوسطى ستتآكل أكثر.
في لحظة شعرت أنني مضطر أن أستعير كلمات علي بن أبي طالب حين وجّه واليه في مصر مالك الأشتر قائلًا: “وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، فإن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة، أخرب البلاد وأهلك العباد.”
الخراج هو الضرائب، والعمارة هي الاقتصاد الحقيقي: الإنتاج، الصناعة، التشغيل، ببساطة، لا يمكنك أن تطلب من الناس أن يدفعوا أكثر بينما الأرض لا تعمر، والمصانع لا تعمل، والفرص لا تخلق، أخشى أن استمرار الاعتماد على جيب المواطن، دون رؤية حقيقية لإحياء الاقتصاد المنتج، لن يؤدي إلا لمزيد من الخراب والإحباط.
مصر لا تحتاج ضرائب إضافية بقدر ما تحتاج فرصة عمل إضافية، ومصنع جديد، وفدان أرض جديدة يعود بالخيرات على الناس.
وفي نهاية حديثي قررت الأ أنحاز الإ للمواطن والدفاع عن مشاكل المواطن وجيب المواطن وأن اعبر بصدق عن صوت المواطن، فالانفراد الحقيقي ليس من سبق بنشر الخبر، بل من سبق إلى إنقاذ الناس من أزمة لا ترحم، الإنفردات هي أن تطرح الأسئلة التي تمس حياته اليومية.
الكاتب الصحفي محمد عبدالرحمن يكتب سلسلة مقالات على موقع “إنفينيتي الاقتصادية” بعنوان “ما بين الواقع والمأمول”، يتناول خلالها الأحداث العامة والاقتصادية بشكل شامل وتحليلي