يبدو أن السيد تركي آل الشيخ، من فرط انشغاله بتنظيم نزالات الملاكمة العالمية والإشراف بنفسه على كل لكمة توجه داخل حلبة موسم الرياض، قد نسي أنه مسؤول، إلا أنه انزلق في مقارنة عبثية بين مصر والسعودية، أقرب لمباراة في وزن غير متكافئ، منها إلى أي نقاش عقلاني بين دولتين بحجم وقيمة وتاريخ البلدين.
ولنكن واضحين منذ البداية: أنا لا أدافع عن الفريق كامل الوزير، ولا أبرر لمسؤول، لكن ما نراه الآن على صفحات تركي الشيخ ليس مجرد منشور مستفز، بل بداية فكرة تطبخ بهدوء وتقدم للمشاهد العربي على أطباق الخوارزميات الموجهة: مصر هدف، وموسم المقارنات السطحية قد بدأ.
إن الصمت أمام هذا النمط من “الاستعراض السياسي المغلف بالترفيه” لم يعد فضيلة، بل هو إغفال لحقيقة صارت تتبلور وتطفو على السطح كل يوم: أن الوعي الجمعي يتعرض للابتلاع، وأن المعارك لم تعد تخاض بالحقائق، بل بالإيحاءات والتلميحات ومشاهد المونتاج.
ومن هنا، تبدأ الحكاية.. في كل مرة يظهر فيها تركي آل الشيخ بمنشور يقارن فيه بين البلدين أو يلمح إلى تفوق بلاده في مجال أو آخر، لا يبدو الأمر بريئًا، بل هو مدروس، موزون، وموجه.
المشهد ليس مجرد تعليق عابر من مسؤول، بل تجسيد صارخ لكيف أصبحت السوشيال ميديا أداة لإعادة رسم الواقع وتحجيم الآخرين دون أن يشعر الجمهور أنهم أدوات في معركة يديرها شخص من خلف الكاميرا.
هل المقارنة بين بلدين مثل مصر والسعودية ممكنة؟ نعم، لكن فقط حين نلتزم بالسياق: الجغرافيا، عدد السكان، البنية التحتية القديمة، تحديات التمويل، الأولويات التنموية، والموروث السياسي، أما أن تختزل المسألة في عدد من المنشورات على الفيس بوك، فهذه ليست مقارنة، بل تلاعب صبياني لا يليق لا بمسؤول ولا برجل يفترض أنه يدير ملفات في بلاده.
والأكثر مدعاة للقلق هو أن تركي آل الشيخ لم يكتف بإطلاق مقارنته، بل استشهد بمواقع اقتصادية، مثل “بلومبرغ الشرق” و”العربية مصر” و”الشرق للأخبار”، كأنها مصادر محايدة، رغم أن كل من يتابع المشهد الإعلامي يعلم أنها منصات طالما ضللت الجمهور المصري، ونشرت مرارًا وتكرارًا أخبارًا غير دقيقة، بعضها مغلوط تمامًا، وبعضها الآخر تم تفنيده لاحقًا بالأرقام والوثائق.
وأقول ذلك ليس من موقع الانفعال، بل من واقع عملي اليومي كمشرف على موقع اقتصادي مصري يجاهد للتمسك بالدقة وسط طوفان من المغالطات الممولة والموجهة.
نحن لا نحارب ترفيهًا ولا نناطح رغبة في الرد، ولكن حين تفتعل المعارك بهذه الطريقة، وحين تصبح مصر مادة للتلميح والسخرية، علينا أن نتحرك، ليس للدفاع عن وزير، بل للدفاع عن فكرة: أن مصر ليست ترندًا، وليست “بوستات” على فيسبوك، وليست صندوق بريد لتفريغ عقد الآخرين.
مصر، بتاريخها وناسها وتناقضاتها، لا تختزل في فيديو، ولا تقارن، فالخطر الحقيقي ليس منشور تركي آل الشيخ، بل المنظومة التي تصنعه وتضخمه.
ولمن يظن أن حديثي دفاع عن وزير أو تبرير لمسؤول، دعوني أسترجع واقعة شخصية.
لقد عملت كمحرر صحفي في أحد المواقع الإخبارية السعودية لمدة عام كامل، وكنت أتابع عن كثب الفوارق الحقيقية، بين إتاحة المعلومات وحرية النشر والتعبير في مصر والسعودية.
وخلال تغطيتي لفعاليات منتدى الأسرة السعودية في 12 نوفمبر 2023، صرح أحد الوزراء السعوديين في جلسة رسمية بأن “طفلًا من كل 3 أطفال سعوديين من الذكور تعرض لتحرش أو ابتزاز جنسي عبر الإنترنت”.
وبينما كنت أجهز المادة للنشر، فوجئت برفض قاطع من إدارة التحرير بدعوى أن السياسة التحريرية للمؤسسة لا تسمح بهذا النوع من التناول الإعلامي.
قالوا لي بوضوح: “مشاكلنا لا تنشر”، وهنا فهمت تمامًا المعنى العميق للرقابة الانتقائية، وللإعلام الذي يصر على تصدير صورة مطلقة الكمال، حتى لو كانت من ورق، وفهمت أيضًا أن الهجوم علينا لا يأتي من فائض ثقة، بل من خوف عميق من المقارنة الحقيقية.
نحن نعيش لحظة فارقة، الهواتف تطالعنا كل يوم بآراء معلبة، ومقارنات جاهزة، ومعلومات “تمت الموافقة عليها” من قبل لجان الخوارزميات.
والناس تعيد النشر، لا لأنها اقتنعت، بل لأنها أُشبعت بصريًا وصوتيًا حتى نسيت كيف تحاكم الأفكار، نحن أمام إعلام يتخفى في هيئة معلومة اقتصادية، أو تقرير صحفي، لكنه في جوهره أداة ضغط ناعمة تمارس التشويش، والتقليل، وتحويل التركيز من الأساس إلى الهوامش.
منصة مثل “بلومبرغ الشرق” لا تخطئ صدفة، ولا تكرر الأكاذيب من فراغ، بل هي حلقة في سلسلة معقدة من تضليل الوعي، وتحويله إلى كتلة خاملة تنتظر من يخبرها من ينتصر، ومن يخسر، ومن “أرخص”، ومن “أغلى”.
المعركة لم تعد على الأرض، بل في عقولنا، إذا لم ندرك أننا نستهدف إعلاميًا، وذوقيًا، وذهنيًا، فنحن لا نعيش في العالم الحقيقي.
الوعي اليوم ينتزع، لا يمنح، والصراع لم يعد على من يملك الحقيقة، بل على من يصنع الإحساس بالحقيقة، حتى لو كانت زائفة، من هنا، يجب أن يكون ردنا عقلانيًا، لكن حاسمًا، مسؤولًا، لكن حادًا.
لسنا ضد النقد، بل نحن أول المطالبين به، لكننا ضد التلاعب، وضد تحويل الخلاف إلى عرض جانبي في موسم ترفيهي.
ضد أن تتحول مصر إلى حلبة ملاكمة يطلق فيها تركي آل الشيخ تصريحات على طريقة “الضربة القاضية” من أجل لايكات وجمهور، مصر مش مقارنة في منشور.
مصر مشروع طويل وصعب. مصر مش ملعب، ومش شاشة، ومش منصة مدفوعة، ولأن مصر أكبر، فالرد لا يكون بالصوت العالي، بل بالعقل الحي.
الكاتب محمد عبدالرحمن يكتب سلسلة مقالات على موقع “إنفينيتي الاقتصادية” بعنوان “ما بين الواقع والمأمول”، يتناول خلالها الأحداث العامة والاقتصادية بشكل شامل وتحليلي.





