كل سنة تقريبًا، بنقرا نفس الخبر بنفس العناوين العريضة: “مصر تسجل أكبر عجز موازنة في تاريخها”، وكأننا بنتفرج على فيلم متكرر، بس النهاية دايمًا أسوأ من المرة اللي قبلها، والسنة دي وصل العجز لـ3.6 تريليون جنيه، رقم مرعب مش بس في حجمه، لكن في دلالته على حالة الاقتصاد اللي أصبح بيعتمد على الدين مش على الإنتاج، وعلى المسكنات مش على العلاج.
المشكلة الحقيقية إن الحكومة بتتصرف كأنها موظف قبضه ناقص كل شهر، فيستلف من البنك علشان يسد الديون اللي عليه، وبعدين يستلف تاني يسد اللي استلفه قبل كده، وهكذا ندخل في دايرة مفرغة وديون لا تنتهي، كل ده من غير ما حد يقف لحظة ويسأل نفسه: هو ده اقتصاد بلد ولا ميزانية بيت مفلس؟ مفيش تغيير حقيقي في طريقة الإنفاق، مفيش إصلاح في الإيرادات، والاقتراض بقى وسيلة يومية مش استثنائية.
لو حبينا نبني تحليلنا على أساس علمي، فنقدر نرجع لـنظرية ريكاردو للتكافؤ الريكاردي (Ricardian Equivalence)، اللي بتقول ببساطة إن تمويل الإنفاق الحكومي بالاقتراض والضرائب مش بيغير حاجة جوهرية، لأن المواطنين هيكونوا متوقعين إن الدولة حترفع الضرائب في المستقبل علشان تسد الديون، فحيقللوا من استهلاكهم وادخارهم استعدادًا للعبء الجاي.
النظرية دي بتشرح ببساطة إن الاقتراض الحكومي له كلفة مستقبلية، وإن المواطن مش غبي، وبيعرف إن الدين النهاردة هو ضرائب بكرة، وده اللي حاصل دلوقتي في مصر: المواطن بيدفع فاتورة الدين عن طريق الغلاء والتضخم.
“نظرية التكافؤ الريكاردي هي فرضية اقتصادية تشير إلى أن طريقة تمويل الإنفاق الحكومي، سواء عن طريق الضرائب أو الاقتراض، لا تؤثر على قرارات الاستهلاك لدى الأفراد، وبالتالي لا تؤدي إلى تغيير في الطلب الكلي. الفكرة الأساسية هي أن المستهلكين يدركون أن أي اقتراض حكومي اليوم سيؤدي إلى زيادة الضرائب في المستقبل، وهو ما يدفعهم إلى الادخار بدلاً من زيادة الإنفاق، وبالتالي لا يكون للسياسة المالية تأثير على النشاط الاقتصادي.”
في الواقع، طريقة الحكومة في التعامل مع العجز بقت أكتر شبهًا بإدمان مالي، كل ما يضغطها الوقت، تلجأ لطباعة الفلوس أو إصدار أذون خزانة، والنتيجة دايمًا واحدة: ارتفاع الأسعار، انهيار القوة الشرائية، وتحميل الناس فوق طاقتهم.
التضخم اللي بنعيشه النهاردة مش نتيجة ظرف خارجي أو حرب في كوكب تاني، ده ناتج مباشر عن سياسات مالية ونقدية فاشلة، بتركز على ترحيل الأزمة مش حلها، زي ما قال الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان: “التضخم دائمًا وأبدًا ظاهرة نقدية، ناتجة عن زيادة في المعروض النقدي بشكل أسرع من الإنتاج الحقيقي”.
العجيب إن الحكومة بتتكلم عن التنمية والمشروعات القومية وكأننا في طفرة، في حين إن حوالي 80% من الميزانية بيصرف على خدمة الديون، مش على التعليم أو الصحة أو الصناعة، تخيل إنك كل سنة تدفع 80% من مرتبك أقساط وديون، والنص التاني barely يغطي مصاريفك، هتبني بيت؟ هتربي عيال؟ هتستثمر؟ ده بالضبط حال الدولة اللي بتصرف أكتر ما بتكسب، وبتغطي ده بديون محلية متزايدة، وكل شوية تعلي الفايدة علشان تلاقي اللي يشتري أذون خزانة، وده بيسحب السيولة من السوق، ويخنق القطاع الخاص اللي مش لاقي تمويل حقيقي.
“وفقًا للبيانات المتاحة، فإن فوائد الدين تستهلك حوالي 74% من إجمالي إيرادات الدولة في العام المالي 2025-2026. كما أن تكلفة فوائد الدين الإجمالية تبلغ 2.3 تريليون جنيه.”
الحل مش معجزة، والحل ببساطة عمره ماهيكون من جيب المواطن، لكنه محتاج قرار، الدولة لازم تعيد النظر في طريقة إدارتها للمال العام، وتعيد هيكلة أولويات الإنفاق، الدعم لازم يروح لمستحقيه، مش يتوزع على الكل، الضرائب لازم تكون عادلة، مش دايمًا على الموظف الغلبان، والأهم من كده كله، لازم الدولة تبدأ تنتج، وتخلق قيمة حقيقية بدل ما تفضل تعيش على الدين.
زي ما قال بول كروغمان، الاقتصادي الحاصل على نوبل: “الأزمات المالية مش بتيجي من الجهل، لكن من تجاهل ما نعرف إنه صح”، وده بالضبط اللي بيحصل دلوقتي، كلنا عارفين إننا ماشيين في طريق غلط، لكن الحكومة رافضة تعترف، ورافضة تغير، وبتحمل الناس الفاتورة سنة بعد التانية.
إما نكسر الحلقة دي، ونبني اقتصاد حقيقي، أو نستنى لحظة الانفجار، واللي شكلها مش بعيد، الكاتب الصحفي محمد عبدالرحمن يكتب سلسلة مقالات على موقع “إنفينيتي الاقتصادية” بعنوان “ما بين الواقع والمأمول”، يتناول خلالها الأحداث العامة والاقتصادية بشكل شامل وتحليلي.