القضية أكبر من مجرد “مالك ومستأجر”، إنها عن التوازن بين الحق في السكن وحق الملكية، عن كيفية إدارة الانتقال من نظام اجتماعي هش إلى آخر أكثر عدالة، عن مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها، لا أن تتخلى عنهم فى لحظة عجز، وتكتفي برميهم إلى المجهول.
أي قانون لا يبدأ من تلك الأسئلة، سيظل قانونًا أعرج، يواجه مقاومة مجتمعية، ويصنع أزمة بدلًا من أن يحلها.
ربما ما يستحق التوقف أمامه أولًا هو توقيت طرح مشروع القانون، بينما تواجه الدولة ملفات إقليمية حساسة وتوترات متصاعدة في المنطقة، وبينما تبدو مصر محاصرة بتحديات جيوسياسية معقدة ومؤامرات متعددة الأطراف، تفاجئنا الحكومة بدفع مشروع قانون “الإيجار القديم” نحو الإقرار النهائي داخل البرلمان.
ورغم التعديلات التي طرحت على القانون، إلا أن المشروع لا يزال يعالج أزمة ممتدة بجذور اجتماعية عميقة بمنطق إداري جامد، يتجاهل السياق التاريخي والتعقيدات الاجتماعية المرتبطة بهذه القضية، وكأن الدولة اختارت أن تغمض عينيها عن الواقع الأوسع، وتفتح إحداهما فقط على مصلحة طرف دون الآخر.
القانون الجديد ينهي العلاقة الإيجارية للمساكن خلال سبع سنوات، ويضاعف القيمة الإيجارية عشرات المرات، ويمنح الملاك الحق فى الإخلاء عبر قاضي الأمور الوقتية دون حماية حقيقية للمستأجر. في الوقت نفسه، لا يميز بين من يملك ومن لا يملك، ولا بين من يسكن لحاجة وبين من اتخذ العقار وسيلة ربح غير مباشر.
في محاولة للتجميل، طرحت الحكومة مادة تمنح الأولوية للمستأجرين في تخصيص وحدات من الدولة، حال إخلائهم للعقار. لكن السؤال الأهم: أين هذه الوحدات؟ وهل تكفي أصلًا؟ وهل الدولة مهيأة لإعادة توطين مئات الآلاف؟ وهل المساواة فى الإخلاء بين طبيب متقاعد وعامل بسيط، أو أرملة بلا دخل وشاب يمتلك شقة في الساحل، هو عدل؟
تجاهل مشروع القانون أيضًا موضوع “خلو الرجل”، الذي دفعه الآلاف من المواطنين لعقود كاستثمار في استقرار السكن، ثم جاء القانون ليطيح بهذا الاستقرار دون تعويض أو إعادة نظر. كما أغفل القانون الاعتبارات الزمنية للعقارات، وكأن الصيانة قضية لا تخص أحدًا.
الأخطر أن تطبيق القانون بهذا الشكل سيفتح أبواب المحاكم على مصراعيها، ويغرقنا في فوضى قضائية لن تفيد المالك ولا المستأجر، بل ستزيد من تعقيد المشكلة بدلًا من حلها.
في المقابل، كان يمكن للحكومة أن تقتدي بنماذج ناجحة عالميًا. كألمانيا مثلًا، حيث يُحظر طرد المستأجر لأسباب اقتصادية، وتُحدد زيادات الإيجار بنسبة لا تتجاوز 10% كل 3 سنوات، أو أن تنشئ صندوق دعم إيجاري ممولًا من الضرائب العقارية، يوجه لدعم المستأجرين غير القادرين على تحمّل الزيادات.
حلول بديلة كثيرة كانت مطروحة، من بينها التحول إلى نظام المشاركة في تملك العقار تدريجيًا، أو تثبيت الإيجار مقابل تولي المستأجر الصيانة، أو اعتماد مراجعة دورية كل عشر سنوات وفق متوسطات الدخل المحلي وسعر السوق، بدلًا من خنق المستأجرين في سبع سنوات.
الحق فى السكن ليس منة من أحد، بل هو واجب على الدولة لا يقل عن واجبها في حماية الملكية الخاصة، وإذا لم تكن هناك نية سياسية حقيقية لضمان عدالة اجتماعية متوازنة، فإن هذا القانون لن يكون سوى وقود لأزمة اجتماعية ستنفجر على وقع قرارات غير مدروسة، وتهديد حقيقي لاستقرار مئات الآلاف من الأسر.
الكاتب محمد عبدالرحمن يكتب سلسلة مقالات على موقع “إنفينيتي الاقتصادية” بعنوان “ما بين الواقع والمأمول”، يتناول خلالها الأحداث العامة والاقتصادية بشكل شامل وتحليلي.