“الاقتصاد أداة لاستخدام القوة السياسية، وأداة لا يمكن الاستغناء عنها لتحقيق الأهداف الجيوسياسية.” — هنري كيسنجر
تلك المقولة ليست مجرد جملة من التاريخ، بل هي قاعدة ذهبية لفهم حاضر المنطقة، ففي زمن تتشابك فيه المصالح لم تعد الحروب تخاض فقط بالدبابات والصواريخ، وإنما بالعقود التجارية وصفقات الغاز وأوراق الاقتصاد التي تلوح كالسيوف في وجه الدول.
فحين تلوح حكومة نتنياهو بمراجعة اتفاق الغاز مع مصر، فهي لا تعيد ترتيب أولوياتها وفقًا لمنظور اقتصادي، بل تعيد رسم خرائط الضغط السياسي.
فحكومة الاحتلال تدرك أن القاهرة تمسك بمفاتيح حساسة في الملف الفلسطيني، معبر رفح، والموقف الرافض لتهجير الفلسطينيين، والقدرة على التأثير في المعادلة الإقليمية، لذلك فإن ورقة الغاز ليست سوى محاولة لخلق جبهة ضغط جديدة في وقت تعجز فيه إسرائيل عن حسم معركة غزة عسكريًا.
إسرائيل لجأت إلى استخدام “سلاح الاقتصاد” في وجه الدولة المصرية لمحاولة إخضاعها، فبعد أن فشلت في كل أوراق الضغط التي استخدمتها، سواء السياسية أو الإعلامية أو الأمنية، لم تجد أمامها سوى التلويح بورقة الغاز، الأ أنها في حقيقة الأمر لا تضغط على مصر بقدر ما تخنق نفسها.
دولة الاحتلال وإن كانت تمتلك احتياطات ضخمة من الغاز في شرق المتوسط، إلا أنها لا تمتلك القدرة على فرض إرادتها على دولة بحجم مصر، التي لا تقاس فقط بحجم استيرادها للطاقة، بل بثقلها الجيوسياسي، وموقعها الجغرافي، وتاريخها الممتد في صياغة معادلات المنطقة ورسم توازناتها.
مصر اليوم ليست الطرف الضعيف الذي يمكن ابتزازه، مصر دولة تدير ملفات معقدة في أوقات في غاية الصعوبة من غزة، أمن الطاقة إلى أمن الحدود، وهي تدرك أن معركة الغاز ليست ماهي الأ معركة إرادة.
اللحظة الراهنة تكشف أن الاقتصاد لم يعد مجرد رقم في ميزانية الدولة، بل ضلعًا في مثلث القوة، فمعركة الغاز هي فصل جديد في مواجهة طويلة، تحاول فيها إسرائيل أن تمد خيوط الصراع إلى كل زاوية ممكنة، لكن ما يغفله نتنياهو أن القاهرة لا تدار بمنطق الانحناء.
فمصر، بتاريخها وموقعها وثوابتها، لا تلوى ذراعها، مصر إن صمتت، يحسب لها الدول ألف حساب، وإن تكلمت، تغير المعادلات، وفي زمن تتبدل فيه التحالفات وتشترى فيه المواقف، تبقى مصر ثابتة، لا تشترى، ولا تبتز، ولا تهزم.