في زيارته التي استمرت ثلاثة أيام لدول الخليج، تنقل دونالد ترامب بين السعودية وقطر والإمارات وكأنه “فاتح منتصر”، حفِيت خطواته بالبُسط الحمراء، ورافقتها ابتسامات عريضة واتفاقيات ضخمة، مئات المليارات من الدولارات طارت من خزائن الخليج إلى واشنطن، دون أن يقدم الرجل – فعليًا – شيئًا في المقابل، سوى صورة تذكارية وعبارات دبلوماسية منمقة، المشهد برمته بدا وكأنه عرض استعراضي مدروس، ويغيب عنه سؤال بسيط: من الذي ربح فعلاً؟
صحيح، دول الخليج أحرار في أموالهم، ولا أحد يملي عليهم كيف ينفقونها، لكن الحرية الحقيقية تبدأ من العقل، لا من رصيد البنك، المشكلة مش في الدفع، بل في الدفع بلا مقابل واضح، أو مقابل مغلف بشعارات براقة مثل “الشراكة” و”الاستثمار”، بينما الواقع يحكي حكاية مختلفة تمامًا، كأننا نشتري الوهم بأغلى سعر، ونكتفي بالتصفيق على الفاتورة.
وهنا، ببراءة الأطفال وسذاجة النبلاء، أتساءل: ماذا لو فكر الخليج العربي بطريقة مغايرة؟ ماذا لو ذهبت المليارات لتأسيس مجمعات صناعية عربية ضخمة؟ لنهضة زراعية مشتركة تمتد من وادي النيل حتى الرافدين؟ لمراكز بحوث تكنولوجية تضم العقول المصرية والسورية والعراقية والمغاربية؟ لجيش عربي حقيقي، أو منظومة دفاع موحدة؟
ماذا لو أقمنا جامعة عربية واحدة لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بدلًا من اللهاث خلف شركات أمريكية لن تنقل لنا لا مصانع، ولا أسرار تصنيع؟ ماذا لو أنفقنا تلك المليارات على توحيد السوق العربية وإنشاء عملة موحدة بديلة عن الدولار الذي يحكم رقابنا؟
الاتحاد الأوروبي مش مجرد شراكة تجارية، ده مشروع اقتصادي-سياسي بيفكر بعقل جماعي، 27 دولة، بلغات مختلفة، وتاريخ دموي طويل، قدروا يركنوا خلافاتهم على جنب، ويبنوا أكبر تكتل اقتصادي في العالم، عملة موحدة، سياسات زراعية وصناعية متكاملة، حدود مفتوحة، وتمويل مشترك للبحث والتعليم والبنية التحتية، النتيجة؟ أوروبا، رغم شيخوختها السكانية وأزماتها، لسه واقفة قدام أمريكا والصين باقتصاد قادر يصدر، ويبتكر، ويفاوض.
“اقتصاد الاتحاد الأوروبي يعتبر من أكبر الاقتصادات في العالم، حيث بلغ الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي حوالي 19.40 تريليون دولار أمريكي في عام 2024، وهو ما يمثل 17.63% من الاقتصاد العالمي، الاتحاد الأوروبي يتمتع بسوق داخلي قوي ويضم اقتصادات متنوعة تعتمد على السوق الحرة والنماذج الاجتماعية المتقدمة، كما أن اليورو هو ثاني أكبر عملة احتياطية وأكثر العملات تداولًا بعد الدولار الأمريكي.”
طيب، ليه ما نحلمش باتحاد اقتصادي عربي بنفس المنطق؟ مش لازم نبدأ بـ”اتحاد سياسي” من أول يوم، نبدأ من الاقتصاد: سوق عربية مشتركة، رسوم جمركية موحدة، بنوك إنمائية عربية تموّل الصناعة والزراعة والتكنولوجيا داخل حدودنا، نخلق قيمة، مش بس نستهلك. نحط العقل قبل العاطفة، والمصالح قبل المجاملات. ساعتها بس، هنعرف إحنا نقدر نكون إيه.
مشكلتنا مش في الفقر، ولا في غياب الموارد، إحنا أغنى من نتصور، لكن فقر الرؤية هو اللي بيمنعنا نشوف الصورة كاملة، مشكلتنا مش إننا بندفع، المشكلة إننا بننسى نحسب العائد، في زمن التكتلات والتحالفات، اللي مش بيبني لنفسه مكان، بيتحول تلقائيًا لسوق، واللي ما بيحسبش، بيدفع طول عمره… ويفضل يتفرج من الصفوف الخلفية.
الكاتب الصحفي محمد عبدالرحمن يكتب سلسلة مقالات على موقع “إنفينيتي الاقتصادية” بعنوان “ما بين الواقع والمأمول”، يتناول خلالها الأحداث العامة والاقتصادية بشكل شامل وتحليلي.