تشهد منطقة شرق البحر المتوسط تحولات متسارعة تعيد رسم خريطة الطاقة العالمية، وتتقدم مصر في قلب هذه التحولات بخطوات واثقة نحو لعب دور المحور الإقليمي الأهم في قطاع الطاقة، فمنذ اكتشاف حقل “ظُهر” العملاق للغاز الطبيعي عام 2015 أكبر اكتشاف في تاريخ البحر المتوسط انطلقت مصر في مسار طموح يعيد صياغة مكانتها الجيوسياسية والاقتصادية، ليس فقط كمصدر للطاقة، بل كمركز إقليمي يربط بين أسواق الطاقة في ثلاث قارات.
وتُعدُ الميزة الجغرافية الفريدة التي تتمتع بها مصر، بامتداد قناة السويس التي تمر عبرها نحو 12% من التجارة العالمية، جعلتها مؤهلة لاستغلال تدفقات الطاقة العالمية لصالحها، ومع سلسلة اكتشافات الغاز في مياهها الاقتصادية، تحولت القاهرة من مستورد للطاقة إلى لاعب مؤثر في موازين الاقتصاد الإقليمي.
ولقد كان اكتشاف حقل ظُهر بمثابة نقطة الانطلاق الحقيقية لثورة الغاز في مصر بطاقة إنتاجية تقدر بنحو 2,7 تريليون قدم مكعب، وضع هذا الحقل مصر على خريطة الدول المصدرة للطاقة، وأعاد ضبط موازين ميزان المدفوعات وأتاح للخزانة العامة موردًا جديدًا.
ولم يتوقف الأمر عند حقل ظُهر، بل تتابعت الاكتشافات في حقول مثل نورس وأتول وشمال الإسكندرية، مدعومةً باستثمارات ضخمة من شركات عالمية مثل “إيني” و “بي بي” و “نوبل إنرجي” ولقد طورت هذه الاستثمارات بنية تحتية متكاملة من خطوط أنابيب ومصانع إسالة، مثل محطتي إدكو ودمياط، مما جعل من مصر مركزًا موثوقًا لتصدير الغاز إلى أوروبا وآسيا.
البنية التحتية الذكية والربط الإقليمي:
ولقد عززت مصر من مشاريع الربط البيني مع دول الجوار إدراكًا لأهمية التكامل الإقليمي في دعم مكانتها كمحور للطاقة، مثل خط أنابيب العريش-عسقلان، الذي يربط مصر بفلسطين وإسرائيل، والذي يشكل نموذجًا ناجحًا للتعاون الإقليمي، في حين تخطط مصر لخطوط إضافية نحو ليبيا والأردن.
كما أقامت محطات عائمة للغاز المسال في العين السخنة والإسكندرية، ما يمنحها مرونة إضافية في إدارة تدفقات الغاز العالمية، ولم تهمل القاهرة تقنيات التخزين تحت الأرض، التي تمنحها القدرة على تخزين الغاز وقت انخفاض الأسعار وطرحه في أوقات الذروة، لتعظيم العوائد ومواجهة تقلبات السوق.
ولقد قادت مصر تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط عام 2019، والذي يضم المنتدى دول المنطقة المطلة على شرق المتوسط إلى جانب إيطاليا وفرنسا، ويهدف إلى تنسيق السياسات وبناء سوق إقليمية متكاملة للغاز، وقد عزز هذا الكيان من ثقل مصر السياسي والاقتصادي، وفتح لها قنوات تعاون استراتيجي مع أوروبا الباحثة عن بدائل آمنة للغاز الروسي.
ورغم نجاحات الغاز الطبيعي، إلا أن مصر أدركت أن المستقبل ينتمي للطاقة المتجددة، ولقد وضعت القاهرة خطة طموحة تستهدف توليد 42% من الكهرباء من مصادر متجددة بحلول 2035، ولعل أفضل مثال على ذلك مشروع بنبان للطاقة الشمسية في أسوان، أحد أضخم المجمعات الشمسية عالميًا، ومزارع الرياح في الزعفرانة وخليج السويس، والتي تعكس بداية تحول تدريجي للطاقة الخضراء.
كما تسعى مصر لتصدير الكهرباء النظيفة إلى دول الجوار وأوروبا، من خلال مشاريع ربط كهربائي ضخمة مع السعودية، واليونان، وقبرص.
الهيدروجين الأخضر: مستقبل مصر في الوقود النظيف
تستعد مصر لريادة إنتاج الهيدروجين الأخضر، الوقود الأنظف والأكثر طلبًا عالميًا، ولقد تم تحديد منطقتي العين السخنة والساحل الشمالي الغربي لاستضافة مشاريع الهيدروجين بفضل توافر الطاقة المتجددة والمياه، وقربهما من الموانئ، ولقد أعلنت العديد من الشركات الأوروبية اهتمامها، ما يفتح لمصر سوقًا جديدة ومصدر دخل متوقع بمليارات الدولارات.
ولقد انعكس هذا الحراك إيجابًا على الاقتصاد المصري، إذ أصبحت صادرات الغاز مصدرًا رئيسيًا للعملة الأجنبية، وبلغت إيراداتها أكثر من 7 مليارات دولار في 2022، كما وفرت الاستثمارات آلاف فرص العمل، خاصة في المناطق الساحلية وسيناء.
كما ساهم تحسين البنية التحتية للطاقة في استقرار الأسعار محليًا، ودعم توجه الدولة لخفض دعم الطاقة تدريجيًا دون ضغوط اجتماعية حادة.
ورغم النجاحات الكبيرة التي تحققت، إلا أن مصر تواجه تحديات تتعلق بتقلبات أسعار الطاقة العالمية، وسرعة تطور تقنيات الطاقة المتجددة. لكن في المقابل، توفر الاتجاهات الدولية نحو التحول الأخضر فرصًا واعدة للهيدروجين والطاقة النظيفة، ويعزز هذا التوجه التعاون مع الاتحاد الأوروبي، لا سيما مع وجود مبادرات أوروبية تدعم تمويل مشاريع الطاقة المتجددة والهيدروجين في دول المتوسط.
إن مصر اليوم تقف في موقع استثنائي يجمع بين ثروات الغاز، وإمكانات الطاقة المتجددة، والموقع الجغرافي الاستراتيجي، والتحول الجاري ليس اقتصاديًا فقط، بل يحمل أبعادًا جيوسياسية ستعزز مكانة مصر إقليميًا وعالميًا لعقود قادمة.
رحلة من حقل “ظُهر” إلى الهيدروجين الأخضر تعكس إرادة سياسية ورؤية استشرافية تستهدف بناء اقتصاد معرفي متنوع ومستدام، ومع استمرار هذه المسيرة، تبدو مصر على موعد مع مستقبل طاقي واعد يدعم أمنها القومي وينعكس إيجابيًا على اقتصادها ومكانتها الدولية.
رضــــــــا شـعبـــــان
خبير الاقتصاد وأسواق المال
إنفينيتي الاقتصادية
ويمكنك متابعة موقع “إنفينيتي الاقتصادية” عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على أحدث التحديثات اليومية لأسعار العملات الأجنبية والعملات العربية مقابل الجنيه، بالإضافة إلى أسعار الذهب في مصر.
ويقدم موقع “إنفينيتي الاقتصادية” مجموعة واسعة من الخدمات تشمل: “أخبار اقتصادية، أخبار محلية، أخبار الشركات المصرية، تحليلات السوق المصرية، الأحداث الاقتصادية المهمة في مصر، أخبار اقتصادية من الدول العربية، تحليلات اقتصادية إقليمية، الأحداث الاقتصادية المهمة في العالم العربي”.
كما يقدم موقع “إنفينيتي الاقتصادية” الأحداث الاقتصادية المهمة على مستوى العالم، بالإضافة إلي خدمات توعوية، مقالات تحليلية، دراسات اقتصادية، إنفوجرافيك، فيديوهات، تحليلات أسواق المال، نصائح استثمارية، أدوات مالية”.