لم تعد التنمية في مصر فى السنوات الأخيرة مجرد مجموعة من المشروعات العملاقة أو الخطط الاقتصادية المتفرقة، بل تحولت إلى سردية وطنية شاملة تعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع وتطرح تصورًا جديدًا لمستقبل الإنسان المصري يقوم على التمكين والإنتاجية والاستدامة.
هذه السردية ليست شعارًا سياسياً أو خطابًا إنشائيًا، بل منظور عملي تسعى من خلاله مصر إلى بناء نموذجها الخاص في التنمية الشاملة في وقت يتغير فيه النظام الاقتصادي العالمي وتتراجع فيه أنماط العولمة التقليدية لصالح الاقتصاديات الوطنية القادرة على الصمود والاكتفاء الذاتي.
1- فلسفة جديدة للتنمية: الإنسان أولاً
تضع السردية الوطنية في قلبها الإنسان المصري بوصفه غاية التنمية ووسيلتها معًا ، فمنظومة التعليم تشهد إعادة هيكلة تربط بين المعرفة وسوق العمل بينما يجري توسيع مظلة الحماية الاجتماعية لتشمل الفئات الأكثر
احتياجًا وتحديث نظام الرعاية الصحية عبر التأمين الصحي الشامل.
إنها نقلة من “تقديم الخدمات” إلى “تمكين الإنسان” ليصبح فاعلاً في عملية الإنتاج والمشاركة المجتمعية، وليس متلقياً سلبياً للمعونات أو الوظائف الحكومية.
2- التحول من مشروعات البنية التحتية إلى اقتصاد إنتاجي
بعد أكثر من عقد من الاستثمار في البنية التحتية فى شبكات الطرق والكهرباء والعاصمة الإدارية والموانئ الذكية، تدخل مصر اليوم مرحلة جديدة هدفها تحويل هذه البنية إلى طاقة إنتاجية.
فالمناطق الصناعية الجديدة ومشروعات الزراعة الحديثة في الدلتا الجديدة وتوشكى والاتجاه إلى الصناعات الخضراء والطاقة المتجددة كلها تعكس توجهًا نحو اقتصاد إنتاجي متنوع لا يعتمد على مورد واحد.
كما تسعى الدولة إلى زيادة مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي إلى نحو 65% بحلول عام 2030 مستندة إلى “وثيقة سياسة ملكية الدولة” التي تحدد بوضوح المجالات التي تنسحب منها الحكومة لصالح الاستثمار الخاص. وبهذا المعنى، تتحول الدولة من “منفذ مباشر” إلى “منظم” بينما يتحمل القطاع الخاص والمجتمع المدني مسئولية النمو المستدام.
3- التحول الرقمي والإصلاح الإداري: الدولة الذكية
لاتقتصر السردية الوطنية على الاقتصاد، بل تمتد إلى إعادة بناء الجهاز الإداري للدولة ، فانتقال الحكومة إلى العاصمة الإدارية ليس مجرد تغيير جغرافي، بل تحول رقمي شامل يعيد تعريف طريقة إدارة الدولة من خلال الربط الإلكتروني بين الوزارات وتبسيط الخدمات للمواطنين والاعتماد على البيانات والتحليل في اتخاذ القرار وهذه الخطوة تمهد لظهور “الحكومة الذكية” التي تتفاعل مع المواطن بكفاءة وشفافية وتحدّ من البيروقراطية المزمنة التي طالما أعاقت الاستثمار والتنمية.
4- العدالة المكانية والاجتماعية: من المركز إلى الأطراف
من أبرز ملامح السردية الوطنية أنها تكسر مركزية التنمية التي كانت تتركز لعقود في القاهرة والدلتا، لتتجه بقوة نحو الريف وصعيد مصر وسيناء ومبادرة “حياة كريمة” تمثل المثال الأوضح إذ تعيد توزيع الموارد والخدمات والبنية الأساسية على أكثر من 4500 قرية وتربط بين تحسين مستوى المعيشة وتوفير فرص العمل والبنية الإنتاجية المحلية ، وبهذا المعنى تتجاوز المبادرة مفهوم “الإعانة الاجتماعية” إلى بناء مجتمعات قادرة على النمو الذاتي.
5- نقاط القوة والتحديات
تكمن قوة السردية الوطنية في وضوح الرؤية وتكاملها فهي تجمع بين البعد الاقتصادي والاجتماعي والرقمي والثقافي وتمنح الدولة القدرة على التحرك في أكثر من محور في وقت واحد ، ولكن التحديات لا تزال قائمة وتتمثل فى :
- الحاجة إلى توازن مالي بين تمويل المشروعات الضخمة وضمان الاستدامة المالية.
- ضرورة تسريع تمكين القطاع الخاص عبر بيئة تشريعية مرنة ومحفزة.
- تقليص الفجوة بين سرعة الإنجاز ومعدلات العائد الاقتصادي الفعلي.
ومع ذلك تظهر مصر في موقع أفضل مقارنة بالعديد من دول المنطقة بفضل بنيتها التحتية القوية وموقعها الجغرافي الذي يجعلها نقطة وصل لوجستية بين آسيا وأفريقيا وأوروبا وتوازن السياسة الخارجية بين الشرق والغرب تحقيقا للمصالح المصرية .
6- نحو عقد اجتماعي جديد
السردية الوطنية في جوهرها هى إعادة صياغة للعقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن بحيث تضمن الدولة الحقوق الأساسية وفرص النمو والمواطن يتحمل مسئولية الإنتاج والمشاركة فى التنمية والانضباط.
وهذه الرؤية، إذا استكملت إصلاحاتها المؤسسية والتعليمية سوف تفتح الباب أمام جمهورية جديدة تقوم على المعرفة والإنتاجية، والمواطنة الفاعلة، والتنافسية اقليميًا، ودوليًا.
ومن الجدير بالذكر، أن مصر تتجه لتحقيق رؤية 2030 بثقة وواقعية بينما تواجه المنطقة اضطرابات اقتصادية وسياسية عميقة وتتحرك مصر برؤية متماسكة تسعى إلى تحقيق تنمية وطنية مستقلة ومستدامة.
وإذا استطاعت مصر أن تحافظ على هذا التوازن بين النمو والعدالة والكفاءة والشفافية والسيادة والانفتاح فإنها لن تكون فقط دولة ناجحة في محيطها، بل نموذجًا عربيًا وإفريقيًا جديدًا للتنمية الوطنية الواعية.
واليوم نشهد اتساع رقعة المشروعات التنموية من الريف إلى العاصمة ومن الصعيد إلى سيناء، ويبدو أن مصر لا تكتفي بأن تبني مؤسساتها واقتصادها، بل تسعى إلى بناء الانسان المصرى من جديد. إنها لحظة انتقال من مرحلة “الإنجاز المادي” إلى “لتمكين الإنساني” ومن التركيز على البنية التحتية إلى الاستثمار في العقول والمهارات وخاصة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى . وإذا كان البناء قد شكّل الخطوة الأولى في العقد الماضي فإن التمكين سيكون عنوان العقد القادم عقد يصنعه جيل جديد يؤمن أن التنمية ليست هدفًا نهائيًا، بل رحلة مستمرة لبناء وطن يليق بطموح وتاريخ وحضارة المصريين.
الوزير المفوض الدكتور/ منجى على بدر
عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسى والاحصاء والتشريع
إنفينيتي الاقتصادية
ويمكنك متابعة موقع “إنفينيتي الاقتصادية” عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على أحدث التحديثات اليومية لأسعار العملات الأجنبية والعملات العربية مقابل الجنيه، بالإضافة إلى أسعار الذهب في مصر.
ويقدم موقع “إنفينيتي الاقتصادية” مجموعة واسعة من الخدمات تشمل: “أخبار اقتصادية، أخبار محلية، أخبار الشركات المصرية، تحليلات السوق المصرية، الأحداث الاقتصادية المهمة في مصر، أخبار اقتصادية من الدول العربية، تحليلات اقتصادية إقليمية، الأحداث الاقتصادية المهمة في العالم العربي”.
كما يقدم موقع “إنفينيتي الاقتصادية” الأحداث الاقتصادية المهمة على مستوى العالم، بالإضافة إلي خدمات توعوية، مقالات تحليلية، دراسات اقتصادية، إنفوجرافيك، فيديوهات، تحليلات أسواق المال، نصائح استثمارية، أدوات مالية”.