تبرز قارة إفريقيا كساحة رئيسية للتنافس والصراع الدولي في عالم مليء بالتحولات الجيوسياسية المتسارعة، ويضع هذا المشهد المتغير مصر بحكم موقعها الجغرافي الفريد وتاريخها وثقلها السياسي في موقع يتطلب لإعادة تقييم شامل لاستراتيجيتها تجاه القارة الإفريقية فالعلاقات المصرية الإفريقية التي تمتد جذورها عبر آلاف السنين تواجه اليوم تحديات غير مسبوقة تتطلب نهجًا جديدًا ومبتكرًا.
إن إفريقيا اليوم تشهد نهضة اقتصادية وسياسية ملحوظة مع نمو اقتصادي مطرد في العديد من دولها وتزايد أهميتها في المعادلات الدولية ويجذب هذا التحول اهتمام القوى العالمية والإقليمية من الصين وروسيا إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مرورًا بدول الخليج وتركيا، وفي خضم هذا التنافس المحموم تجد مصر نفسها في موقف يتطلب منها إعادة تأكيد دورها التاريخي كجسر بين إفريقيا والعالم العربي وكقوة إقليمية رائدة في القارة.
إن التحديات التي تواجه مصر في محيطها الإفريقي متعددة ومعقدة فمن ناحية هناك قضية سد النهضة الإثيوبي التي تمثل تهديدًا مباشرًا للأمن المائي المصري وتستدعي دبلوماسية حكيمة ومتعددة الأبعاد، ومن ناحية أخرى هناك التحديات الأمنية المتمثلة في انتشار الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء والتي تهدد الاستقرار الإقليمي وتتطلب تنسيقًا أمنيًا وثيقًا مع الدول الإفريقية.
ولا شك أن القارة الإفريقية تحمل فرصًا هائلة لمصر فالسوق الإفريقية بتعدادها السكاني المتنامي تمثل فرصة ذهبية للصادرات والاستثمارات المصرية، كما أن التكامل الاقتصادي الإفريقي الذي يتجسد في اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية يفتح آفاقًا جديدة للتعاون الاقتصادي والتجاري، وفي ضوء هذه التحديات والفرص تبرز الحاجة الملحة إلى إعادة هيكلة الآلية المؤسسية المصرية للتعامل مع الشؤون الإفريقية، فالنهج التقليدي الذي يعتمد على وزارة الخارجية كجهة رئيسية للتعامل مع القضايا الإفريقية قد لا يكون كافيًا لمواجهة تعقيدات المشهد الحالي، ولذلك فمن هنا تأتي فكرة استحداث وزارة مصرية مختصة بالشؤون الإفريقية كخطوة استراتيجية محتملة.
ويمكن أن تكون هذه الوزارة المقترحة بمثابة مركز تنسيق شامل للسياسة المصرية تجاه إفريقيا تجمع بين الأبعاد الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية والثقافية في رؤية متكاملة، فمن خلال التركيز الحصري على الشؤون الإفريقية يمكن لهذه الوزارة أن تطور خبرات متخصصة وعميقة في الديناميكيات المعقدة للقارة، وأن تصوغ استراتيجيات أكثر دقة وفعالية للتعامل مع التحديات والفرص الناشئة.
إن فكرة إنشاء وزارة للشؤون الإفريقية ليست بالأمر الجديد فالعديد من الدول مثل الصين وفرنسا لديها وزارات أو هيئات متخصصة للتعامل مع الشؤون الأفريقية وهذه النماذج يمكن أن توفر دروسًا قيمة لمصر في تصميم وتنفيذ هيكل مؤسسي مماثل مع مراعاة الخصوصية المصرية والتحديات الفريدة التي تواجهها في علاقاتها مع إفريقيا.
إن إعادة صياغة الدور المصري في إفريقيا ليس مجرد خيار استراتيجي، بل هو ضرورة حتمية في عالم متغير، والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو هل يمكن لوزارة مختصة بالشؤون الإفريقية أن تكون الأداة الفعالة التي تحتاجها مصر لتحقيق هذا الهدف؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذا المقال.
دور محتمل وملفات حساسة
يمكن أن تلعب الوزارة المقترحة دورًا محوريًا في عدة مجالات حيوية فعلى الصعيد الدبلوماسي ستكون مسؤولة عن بناء شبكة علاقات قوية مع الدول الإفريقية وتنسيق المواقف المصرية في المحافل الإفريقية والدولية، كما ستتولى إدارة الملفات الحساسة مثل أزمة سد النهضة بشكل أكثر تخصصًا وفعالية، أما في المجال الاقتصادي ستعمل الوزارة على تعزيز التبادل التجاري وتشجيع الاستثمارات المصرية في إفريقيا من خلال دراسة معمقة للأسواق الإفريقية وستتمكن من تحديد الفرص الاستثمارية الواعدة وتنسيق جهود الاستفادة من اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية وهذا الدور سيكون حيويًا في فتح آفاق جديدة للاقتصاد المصري وتعزيز مكانته في السوق الإفريقية.
أما على الصعيد الأمني ستلعب الوزارة دورًا محوريًا في تنسيق جهود مكافحة الإرهاب والتطرف مع الدول الإفريقية من خلال تعزيز التعاون الاستخباراتي وتبادل المعلومات وستساهم في تعزيز الأمن الإقليمي، كما ستعمل على تطوير برامج لبناء القدرات للقوات الأمنية في الدول الإفريقية الصديقة مما سيعزز من نفوذ مصر ودورها كقوة إقليمية رائدة.
وفيما يخص مجال التنمية المستدامة ستقود الوزارة جهود نقل الخبرات المصرية في مجالات حيوية مثل الزراعة والري والطاقة المتجددة من خلال تنسيق برامج المساعدات التنموية المصرية في إفريقيا، كما ستعمل الوزارة على تعزيز مكانة مصر كشريك تنموي موثوق به في القارة الإفريقية، وسيساهم هذا الدور في بناء علاقات طويلة الأمد مع الدول الإفريقية تتجاوز المصالح السياسية والاقتصادية قصيرة المدى، وأخيرًا وليس آخرًا بالنسبة للمجال الثقافي والتعليمي فإن الوزارة ستتولى مسؤولية إدارة برامج المنح الدراسية للطلاب الأفارقة في الجامعات المصرية، وتنظيم الفعاليات الثقافية لتعزيز التفاهم المتبادل، وسيكون هذا الدور حيويًا في تعزيز القوة الناعمة المصرية في إفريقيا ودعم انتشار اللغة العربية والثقافة المصرية في القارة.
آفاق وتحديات
إنه بالرغم من الإمكانات الواعدة لهذه الوزارة المقترحة، إلا أنها ستواجه تحديات جمة في التنفيذ أحد أبرز هذه التحديات هو ضمان التنسيق الفعال مع الوزارات الأخرى، خاصةً مع وزارتي الخارجية والهجرة وشئون المصريين بالخارج ووزارة التخطيط والتعاون الدولي لتجنب تداخل الصلاحيات وضمان تناغم السياسات، كما أن تخصيص الموارد اللازمة لتشغيل الوزارة بفعالية في ظل التحديات الاقتصادية الحالية سيشكل تحديًا آخر.
ومن أجل نجاح الوزارة المقترحة سيكون هناك احتياج لبناء خبرات وتأهيل كوادر متخصصة في الشؤون الإفريقية مما سيكون له بالغ الأثر في نجاحها وسيتطلب هذا استثمارًا كبيرًا في التدريب وبناء القدرات، وعلى الجانب الآخر تحمل فكرة إنشاء هذه الوزارة فرصًا كبيرة لتعزيز النفوذ المصري في إفريقيا من خلال زيادة القدرة على التأثير في السياسات الإفريقية وتحسين إدارة الأزمات الإقليمية، ويمكن لمصر أن تعزز دورها كقوة إقليمية رائدة اقتصاديًا، كما ستساهم الوزارة في فتح أسواق جديدة للصادرات المصرية وزيادة الاستثمارات في إفريقيا.
خارطة طريق
يجب اتباع نهج متدرج في التنفيذ لضمان نجاح هذه المبادرة، ويمكن البدء بإنشاء هيئة أو مجلس للشؤون الإفريقية كخطوة أولى قبل الانتقال إلى إنشاء وزارة كاملة وسيسمح هذا النهج بتقييم الفعالية والتكيف مع التحديات بشكل تدريجي، ومن الضروري أيضًا إشراك جميع الجهات المعنية في عملية التخطيط بما في ذلك الوزارات والمؤسسات ذات الصلة، وسيضمن هذا التشاور تناغم السياسات وتجنب الصراعات البيروقراطية.
كما يجب التركيز على بناء القدرات من خلال تطوير برامج تدريبية متخصصة للدبلوماسيين والخبراء في الشؤون الإفريقية ووضع آليات فعالة للتنسيق مثل إنشاء لجان مشتركة مع الوزارات الأخرى، وسيكون أمرًا حيويًا لضمان التناغم في السياسات وتجنب الازدواجية في العمل، كما يجب الاهتمام بالتواصل الاستراتيجي لشرح أهمية الوزارة الجديدة للرأي العام المصري والإفريقي وبناء الدعم الشعبي اللازم لنجاحها.
ويمكن القول إن استحداث وزارة مصرية للشؤون الإفريقية يمثل خطوة استراتيجية طموحة تحمل إمكانات كبيرة لتعزيز الدور المصري في القارة الإفريقية، ورغم التحديات التنفيذية والهيكلية التي تواجهها هذه الفكرة فإن الفوائد المحتملة في تعزيز الأمن القومي المصري والمصالح الاقتصادية والنفوذ الإقليمي تجعلها جديرة بالدراسة الجادة والتنفيذ المدروس.
وفي نهاية الأمر فإنه يمكن لوزارة الشؤون الإفريقية أن تكون أداة قوية في يد صانعي السياسة المصرية لصياغة مستقبل العلاقات المصرية الإفريقية وتأمين دور قيادي لمصر في القارة السمراء، ومع ذلك يجب أن يكون إنشاؤها جزءًا من استراتيجية شاملة ومتكاملة للسياسة الخارجية المصرية تجاه إفريقيا تأخذ في الاعتبار التحديات والفرص المتغيرة في المشهد الجيوسياسي الإفريقي.
د / إســــلام جـمــــال الـديـن شــــــــوقـي
خـبــــــير اقـتـصــــــــــادي
عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي