السبت, 21 يونيو, 2025
رئيس مجلس الإدارة
د. إسلام جمال الدين


المشرف العام
محمد عبدالرحمن
رئيس مجلس الإدارة
د. إسلام جمال الدين


المشرف العام
محمد عبدالرحمن

عندما يقرر الروبوت مصيرك.. هل القانون مستعد لمعركة التحول الرقمي؟

عندما يقرر الروبوت مصيرك، وتصدر أنظمة رقمية ذكية قرارات مصيرية تمس حياتك اليومية دون تدخل بشري، يصبح من الضروري أن نتوقف ونتساءل: هل القانون مستعد فعلاً لمعركة التحول الرقمي؟ تخيل مشهدًا لرجل يقف في قاعة المحكمة، لا ليجادل في ملكية أرض، أو يطعن في عقد بيع، بل ليناقش قرارًا لم يصدره موظف حكومي، ولم يمهره مسؤول بتوقيعه، بل جاء من جهة غير مرئية، منظومة رقمية أو نظام ذكي يتحكم في المصائر والحقوق. منظومة تعتمد على منطق حسابي مجرد، وضعه مبرمجون ظنوا أنهم يرسمون به قواعد عادلة، لكنها، ككل أدوات التقنية الحديثة، قد تخطئ، أو تنحاز، أو تتجاوز صلاحياتها، لتترك خلفها أسئلة معلقة حول المسؤولية القانونية والعدالة في زمن التحول الرقمي.

 

والحقيقة أن هذا ليس مشهدًا من رواية مستقبلية، ولا مشهدًا سينمائيًا يتخيل ما بعد الغد، بل هو واقع يتسلل إلى تفاصيل حياتنا اليومية بهدوء، يغير طريقة تعاملنا مع المال، الصحة، الأمن، والعمل، وحتى العدالة ذاتها، فنحن نعيش زمنًا لم تعد فيه السلطة محصورة في يد الإنسان وحده، بل باتت موزعة بين قرارات بشرية وأخرى تصدرها أنظمة تكنولوجية معقدة، تعمل وفق منطقها الخاص، وتؤثر في مصائر البشر بشكل مباشر.

 

ويصبح القانون في هذا المشهد الجديد، مدعوًا لأن يتخلى عن أدواته التقليدية، ليخوض معركة من نوع آخر، إنها معركة تتعلق بتنظيم سلطة جديدة غير مرئية، تتغلغل في التفاصيل، وتفرض وجودها من دون تفويض اجتماعي واضح، وبات على القانون أن يعيد رسم ملامحه، ويبحث لنفسه عن دور في مشهد يتغير بوتيرة لم يعد فيها الإنسان وحده صانع القرار.

 

لقد كان القانون منذ أقدم العصور مرآة للمجتمع، يتطور كما تتطور علاقات البشر، ويواكب متغيراتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، غير أن ما نشهده الآن ليس مجرد تغير اجتماعي أو اقتصادي، بل تحول في طبيعة السلطة ذاتها، ولم يعد القرار مقتصرًا على البشر، بل بات للأنظمة المؤتمتة دور فاعل في صناعة المصائر، من خلال آليات تنفذ تعليماتها بشكل آلي، ووفق معايير قد يصعب تتبعها أو تفكيكها.

 

وهناك أحد أكثر الأمثلة وضوحًا لهذا التحول هو ما يعرف بالعقود الذكية، وهي عقود رقمية تنفذ نفسها تلقائيًا بمجرد تحقق شروطها، دون حاجة لتوقيع أو إشراف مباشر من أطرافها، وهذه العقود التي بدت يومًا فكرة تكنولوجية طموحة، أصبحت اليوم أداة حقيقية تبرم بها الصفقات، وتحسم بها الحقوق والالتزامات، غير أن ما يغيب عن ذهن البعض هو أن هذه الأنظمة، وإن بدت محايدة، إلا أن بها احتمالات الخطأ، والخلل، والانحياز، فمن يحاسب إن نفذ عقد بطريقة خاطئة؟ أو حرم طرف من حقه بسبب خلل تقني؟

 

وتتجاوز المعضلة العقود الذكية إلى أنظمة اتخاذ القرار في مجالات أكثر حساسية، وتحدد الأنظمة من يستحق قرضًا بنكيًا، ومن يحق له وظيفة، ومن يدرج اسمه في قائمة الممنوعين من السفر، وتقدر أخرى القسط التأميني، وتقرر حتى مستوى خطورة متهم على المجتمع، وقد ترتكب هذه المنظومات أخطاء كارثية، إما بسبب تصميم غير دقيق، أو بيانات ناقصة، أو تحيز مدمج، ومازال يفتقر المجتمع القانوني إلى أدوات فعالة للتعامل مع هذا الواقع.

 

وتظهر الحاجة هنا إلى أجيال جديدة من المشرعين والقضاة والمحامين، يتقنون لغة الأرقام والخوارزميات بقدر إتقانهم للنصوص القانونية لأن الحسم في نزاع نشأ عن نظام تقني يتطلب فهمًا بمنطق تلك الأنظمة، ومعرفة بكيفية عملها، وأين يمكن أن تخطئ، ولم يعد كافيًا أن يعرف المحامي مواد القانون فحسب، بل صار من الضروري أن يلم ببنية النظام الذي أصدر القرار محل الطعن.

 

كما يتطلب الأمر أيضًا إعادة النظر في فلسفة المسؤولية ذاتها، فحين يتسبب نظام آلي في ضرر، من المسؤول؟ هل هو المبرمج الذي صممه؟ أم الشركة المالكة له؟ أم الطرف الذي قرر الاعتماد عليه؟ أم النظام نفسه؟ وهل يجوز أصلاً أن تحمل منظومة لا إرادة لها تبعات أفعالها؟ إنها إشكاليات فلسفية بقدر ما هي قانونية، تحتاج إلى إعادة تأصيل مفاهيم المسؤولية والخطأ والتعويض في ضوء هذا الواقع الجديد.

 

ولا يقل خطورة عن ذلك تأثير هذه الأنظمة في المجال العام فمنظومات تصنيف الأخبار، وتحليل الرأي العام، وتوجيه الحملات الإعلانية والسياسية، باتت تؤثر بشكل مباشر في المزاج الاجتماعي، واتجاهات التصويت، ورسم السياسات العامة، وغالبًا ما تعمل هذه الأنظمة دون رقابة حقيقية، أو مساءلة واضحة، وهنا يصبح القانون حائط الصد الأخير، لضمان عدم تحول هذه الأدوات إلى أذرع خفية لقوى تسعى لاحتكار القرار أو التلاعب بمصائر الناس.

 

ولقد شرع فعليًا عدد من الدول المتقدمة في صياغة تشريعات جديدة تتعامل مع هذه الإشكاليات، منها على سبيل المثال قوانين خصوصية البيانات التي أقرها الاتحاد الأوروبي، والتي تلزم الأنظمة الإلكترونية بشرح أسباب اتخاذ قراراتها عندما يتعلق الأمر بحقوق الأفراد، وكذلك ظهرت تجارب لمحاكم متخصصة في نزاعات التقنية، وأخرى تعالج إشكاليات العقود الذكية ضمن منظومات التحكيم الرقمي.

 

أما في الدول العربية فما زالت معظم التشريعات تسير في خط استباق الأثر، دون التعمق في جوهر المشكلة، وتكتفي الكثير من القوانين بتنظيم المسائل التقليدية، أو تتعامل مع المسائل الرقمية باعتبارها ظواهر طارئة، وهو ما يفتح المجال أمام ضرورة مراجعة شاملة للبنية التشريعية، تتسع لفكرة أن السلطة اليوم باتت موزعة بين البشر والأنظمة.

 

ولا يمكن إغفال البعد الأخلاقي لهذه القضية، إذ يبقى السؤال الأعمق: إلى أي مدى يمكن للمجتمع أن يترك زمام مصائره لمنظومات تتخذ قراراتها وفق حسابات خالية من الشعور؟ وكيف يمكن ضمان العدالة والكرامة الإنسانية وسط منظومة حسابية لا تعترف إلا بمعادلات صماء؟ هذه الأسئلة تتطلب إجابات ليست فقط من رجال القانون، بل من الفلاسفة، وعلماء الاجتماع، وأصحاب القرار.

 

لقد أصبح التحدي الآن ليس تقنيًا بحتًا، ولا قانونيًا صرفًا، بل معركة حضارية شاملة، تتعلق بشكل المجتمع الذي نريده، وحدود سلطة القرار فيه، وضمانات ألا تتحول أدوات التقنية إلى سلاح ضد من صنعها، إنها معركة تستلزم شجاعة فكرية، ومرونة تشريعية، وإرادة سياسية جادة، لكتابة قواعد جديدة تنظم هذا الواقع الذي لم يعد ينتظر أحدًا.

 

إننا الآن لسنا أمام ترف فكري أو رفاهية تنظيرية، بل أمام ضرورة تفرضها متغيرات تتسارع بلا هوادة، ويبقى القانون، كما كان دومًا، أحد أعمدة تنظيم الحياة، شريطة أن يتخلى عن جمود نصوصه القديمة، ويلبس ثوبًا جديدًا يليق بعصر لم يعد الإنسان فيه وحده صاحب القرار.

 

 د / إســــــــلام جــمــــال الـــديـــن شـــــــوقـــي
            خـــــبـيـر اقــتصـــــــــــــــادي
عــضـو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي

 

إنفينيتي الاقتصادية

ويمكنك متابعة موقع “إنفينيتي الاقتصادية” عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على أحدث التحديثات اليومية لأسعار العملات الأجنبية والعملات العربية مقابل الجنيه، بالإضافة إلى أسعار الذهب في مصر.

ويقدم موقع “إنفينيتي الاقتصادية” مجموعة واسعة من الخدمات تشمل: “أخبار اقتصادية، أخبار محلية، أخبار الشركات المصرية، تحليلات السوق المصرية، الأحداث الاقتصادية المهمة في مصر، أخبار اقتصادية من الدول العربية، تحليلات اقتصادية إقليمية، الأحداث الاقتصادية المهمة في العالم العربي”.

كما يقدم موقع “إنفينيتي الاقتصادية” الأحداث الاقتصادية المهمة على مستوى العالم، بالإضافة إلي خدمات توعوية، مقالات تحليلية، دراسات اقتصادية، إنفوجرافيك، فيديوهات، تحليلات أسواق المال، نصائح استثمارية، أدوات مالية”.

مقالات ذات صلة

الاكثر قراءة