كنت أتابع لقاء للدكتور محمود محي الدين، المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، في أحدى البرامج التليفزيونية، توقفت أمام مقولة خرجت بتلقائية وصدق وهي: “مصر تستطيع أن يكون لها برنامج اقتصادي ومالي خاص بها، بعيداً عن الاقتراض من صندوق النقد، وببرنامج وطني خالص. صندوق النقد لا يعرض على أي دولة الاقتراض منه، والدول التي تسعى للاقتراض ملزمة بتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي مع الصندوق”.
تلك الكلمات تحمل الكثير من المعانى، فهي بمثابة “وشوشة” في أذن الحكومة، بأن الاعتماد على الذات وبناء اقتصاد قوي من الداخل هو السبيل الوحيد لتحقيق الاستقلال الاقتصادي، الحلول ليست في الاقتراض بل في تعزيز الإنتاج والصناعة.
وفي ظل التحديات الاقتصادية العالمية المتزايدة، تتجلى حقيقة أن العالم لا يعرف الفراغ، إذا لم ننهض بأنفسنا لملء هذا الفراغ من خلال تعزيز قدراتنا الإنتاجية وتطوير اقتصادنا المحلي، سنجد أنفسنا دائمًا نعتمد على الآخرين لتلبية احتياجاتنا الأساسية، وهو ما أصبح يستوجب في المرحلة الراهنة أن نركز على الصناعة المحلية لضمان استدامة مواردنا وتقليل الاعتماد على الاستيراد.
فالصناعة هي حجر الأساس الذي تبنى عليه الدول اقتصاد قوي، وإذا نظرنا إلى التجارب العالمية، سنجد أن الدول التي حققت طفرة اقتصادية فعلت ذلك عبر دعم صناعاتها المحلية وزيادة إنتاجها.
وهنا يأتي السؤال الأكثر سذاجة على الأطلاق: لماذا لا نركز على التصنيع المحلي بدلًا من الاستيراد؟ لماذا تأخرنا في دعم الصناعات الوطنية رغم امتلاكنا كل المقومات لنكون دولة صناعية.
وحتى لا أطيل في السرد والكلام الإنشائي، خلال الأسابيع القليلة الماضية، ومن خلال بحثي عن نماذج ناجحة من المصنعين المصريين الذين استطاعوا بأفكار بسيطة وخارج الصندوق تحقيق نجاح ملحوظ ولافت، توقفت أمام قصة نجاح رجل الأعمال علاء نصر الدين، الذي كان واحدًا من أكبر مستوردي “عصيان المقشات”، وعلى الرغم من أن هذه السلعة تبدو بسيطة، إلا أن مصر كانت تستوردها من الخارج على مدار عقود، إلا أن علاء نصر الدين قرر تغيير المعادلة، وأسس مصنعه الخاص في مدينة بدر لإنتاج “عصيان المقشات والشماسي”.
بداية هذا المشروع كانت باستثمار بسيط، حوالي 3 ملايين جنيه، لكن النتائج فاقت التوقعات، وأصبح يصدر المصنع 80% من إنتاجه لدول الخليج، ويوزع الباقي في السوق المحلي.
وهنا يأتي دور الصناعات الصغيرة كمحرك قوي وسريع للاقتصاد الوطني، أفكار بسيطة وسهلة التنفيذ، وسريعة النتائج، تقلل من فاتورة الإستيراد بالعملة الأجنبية وتسهم في زيادة الحصيلة الدولارية، هذا النوع من الصناعات الصغيرة والمتوسطة يبرز أهمية الصناعة المحلية ودورها الكبير في تحقيق الاكتفاء الذاتي وتحسين ميزان التصدير.
وهنا تكمن الفكرة في أن المنتجات التي قد تبدو بسيطة وغير مهمة هي في الواقع فرص استثمارية ضخمة إذا تم استغلالها بالشكل الصحيح، وإذا نظرنا إلى التجارب الاقتصادية الناجحة في التاريخ، نجد أن نظرية الحماية الصناعية (Industrial Protectionism) كانت حاضرة في العديد من الدول التي قامت بتطوير صناعتها، هذه النظرية تقول إن الدول، في مراحلها الأولى من التنمية الصناعية، يجب أن تقوم بحماية صناعاتها الناشئة من المنافسة الخارجية حتى تتمكن من النمو والتطور.
وهو ما يعني أن الدولة تفرض تعريفات جمركية أو قيودًا على الاستيراد للمنتجات التي يمكن تصنيعها محليًا، بهدف حماية الصناعات الوطنية من الإغراق بالمنتجات الأجنبية الأرخص أو الأكثر تطورًا، هذه النظرية تساعد الصناعات المحلية على الوقوف على قدميها والنمو حتى تصل إلى مرحلة تستطيع فيها المنافسة عالميًا.
اقرأ أيضًا.. ما بين الواقع والمأمول.. هل يقودنا التضليل الإعلامي إلى المزيد من الأزمات الاقتصادية؟
إلى جانب ذلك، يمكن تقديم حوافز استثمارية للمصانع والشركات الصغيرة لتشجيعها على توسيع إنتاجها وتحسين جودته، هذه الحماية ليست دائمة، بل هي مؤقتة لحين أن تنضج الصناعات المحلية وتستطيع المنافسة على مستوى عالمي.
العبرة من نظرية الحماية الصناعية وقصة علاء نصر الدين هو أن الإنتاج المحلي هو الطريق الحقيقي نحو استقلال اقتصادي طويل الأمد، مصر لا يمكنها أن تعتمد إلى الأبد على الاستيراد والاقتراض، المستقبل يعتمد على تطوير صناعتنا المحلية، وزيادة استثماراتنا في قطاعات الإنتاج.
وإذا لم نملأ الفراغ في اقتصادنا بالإنتاج المحلي، سنظل تحت رحمة الاستيراد والديون، وعلينا أن نتذكر أن كل مشروع صناعي، مهما كان صغيرًا، هو خطوة نحو تحقيق نمو اقتصادي شامل ومستدام.
الكاتب الصحفي محمد عبدالرحمن يكتب سلسلة مقالات على موقع “إنفينيتي الاقتصادية” بعنوان “ما بين الواقع والمأمول”، يتناول خلالها الأحداث العامة والاقتصادية بشكل شامل وتحليلي.