بينما يستيقظ العالم على نتيجة الانتخابات الأمريكية، تواجه الاقتصادات العالمية تساؤلات منطقية حول تداعيات عودة دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة، فمع تعزيز سيطرة الجمهوريين على مجلس الشيوخ، يبدو أن ترامب يمتلك الآن المساحة السياسية لدفع أجندته الاقتصادية أكثر من آي وقت سبق والتي طالما كانت محل جدل عالمي.
وأعتقد أن كبرى الدول وجميع الأطراف الدولية تجتمع الآن داخل دوائر صنع القرار لتحليل التداعيات المحتملة لعودة ترامب إلى السلطة، واضعة في الاعتبار تأثير سياساته المرتقبة على الاقتصاد العالمي وتوجهات التجارة العالمية، وكيف يمكن أن تؤثر سياساته الجريئة والمثيرة للجدل على الأسواق، التجارة؟ وهل سيكون العالم أمام مرحلة اقتصادية جديدة؟ والأهم بالنسبة لنا، كيف ستؤثر هذه التحولات العالمية على الاقتصاد المصري واقتصادات منطقة الشرق الأوسط؟
فوز ترامب وتطبيق سياسات اقتصادية تعتمد على الحماية الجمركية وسياسات الترحيل وإعادة التصنيع تطرح سؤالًا حول مستقبل النظام الاقتصادي العالمي، هل نحن أمام نهاية حقبة العولمة الاقتصادية؟ هل سيتحول العالم إلى ساحة صراع تجاري تتنافس فيها الدول من خلال فرض الرسوم وإغلاق الأسواق؟
وحتى نحلل المشهد يجب أن نبدأ من حيث انتهى ترامب ونبدأ من وعوده الأكثر إثارة، وتعهده بفرض رسوم جمركية تتراوح بين 10% إلى 20% على جميع السلع المستوردة، ورسوم تصل إلى 60% على الواردات الصينية، يجب أن نفهم لماذا هذه النسب؟ وما الذي يهدف ترامب إلى تحقيقه من ورائها؟.
تعكس تلك الرسوم رؤية ترامب الاقتصادية لإحياء الصناعة المحلية وإعادة توطين الوظائف، وخاصة في القطاعات الحيوية مثل الصناعات الثقيلة والتكنولوجية، وفي الوقت التي تنظر فيه معظم الدول الصناعية الكبرى إلى هذه السياسة على أنها متشددة، إلا أن ترامب يهدف من خلالها لتقليص عجز الميزان التجاري الذي يعاني منه الاقتصاد الأمريكي مع الصين والدول الأخرى، بالإضافة إلى خفض البطالة في قطاعات محددة.
فالنظريات الاقتصادية التي تقوم على الحماية التجارية ترى أن فرض الرسوم الجمركية يسهم في حماية الصناعة الوطنية من المنافسة الأجنبية، ويعزز قدرة الاقتصاد المحلي على النمو، إلا أن هذا النهج يحمل تحديات ضخمة، فقد تترتب عليه تداعيات على مستويات الأسعار في الأسواق الأمريكية، حيث ستشهد السلع المستوردة ارتفاعات متتالية في الأسعار، مما قد يؤثر سلبًا على المستهلكين والشركات.
ومن المؤكد أن تأثير سياسات ترامب الاقتصادية على الاقتصاد العالمي أعمق من تأثيرها على الاقتصاد الأمريكي نفسه، فعودة الحماية الجمركية وتطبيق سياسات اقتصادية قومية قد تدفع دولًا أخرى لاتباع سياسات مشابهة، ما يعني احتمالية حدوث تراجع في حركة التجارة الحرة العالمية، ومن الواضح أن سياسات ترامب تشكل تهديدًا لنظام التجارة العالمية القائم منذ عقود، والذي قام على تعزيز التكامل الاقتصادي بين الدول.
من وجهة نظر المستثمرين، يشكل نهج ترامب القومي خطرًا إضافيًا على بيئة الاستثمار العالمية، إذ أن الرسوم الجمركية وسياسات الهجرة الصارمة قد تؤدي إلى خلق مناخ استثماري أقل استقرارًا، خاصةً في القطاعات التي تعتمد على العمالة المهاجرة وتبادل المواد الخام بين الدول.
سياسات ترامب الاقتصادية قد تؤدي إلى رفع تكاليف الإنتاج لدى الشركات، ما سيدفع العديد منها إلى إعادة النظر في خططها الاستثمارية، وإذا نظرنا إلى مبدأ “التجارة الحرة” الذي تقوم عليه النظرية الاقتصادية الكلاسيكية، سنجد أنه كلما كان النظام التجاري أكثر انفتاحًا، زادت مرونة الاقتصادات وتوسعت فرص الاستثمار.
ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، تواجه مصر تحديات اقتصادية قد تتزايد نتيجة سياساته، على سبيل المثال، ارتفاع الرسوم الجمركية على السلع المستوردة إلى الولايات المتحدة قد يؤثر على الصادرات المصرية، خاصة في القطاعات التي تعتمد على السوق الأمريكي مثل المنتجات الزراعية والمنسوجات.
من ناحية أخرى، إذا استمرت الولايات المتحدة في اتباع نهج ترامب الاقتصادي القائم على “أمريكا أولاً” والحد من التعاون الاقتصادي الخارجي، قد تقل فرص الحصول على الدعم الاقتصادي أو المساعدات الخارجية، ومع تفاقم القومية الاقتصادية، قد تكون هناك قيود إضافية على الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وهو ما قد يؤثر على الاستثمارات الأمريكية المباشرة في مصر والمنطقة بشكل عام.
وبالنسبة للشرق الأوسط، فإن تأثير فوز ترامب قد يكون معقدًا؛ فمن ناحية، سيسعى ترامب لتعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية مع بعض دول المنطقة، خاصة تلك التي لها أهمية استراتيجية كالسعودية والإمارات وبالتأكيد مصر لما لها من أهمية إستراتيجية كبيرة، إلا أن سياسات ترامب الحمائية قد تؤدي إلى تقليل التعاون التجاري بين الشرق الأوسط والولايات المتحدة، وهو ما قد يؤثر على بعض الاقتصادات التي تعتمد على الصادرات أو الاستثمارات الأمريكية.((
( كلمة “حمائية” تشير إلى سياسة اقتصادية تهدف إلى تقييد الواردات من الدول الأخرى من خلال فرض تعريفات جمركية، حصص استيراد، أو لوائح حكومية أخرى. الهدف من هذه السياسات هو حماية الصناعات المحلية من المنافسة الأجنبية، ولكنها قد تؤدي أيضًا إلى تقليل التجارة وزيادة تكلفة السلع المستوردة على المستهلكين )
وفيما يتعلق بسوق النفط، فإن عودة ترامب قد تزيد من عدم الاستقرار في المنطقة، خاصة إذا توسع في إنتاج النفط الأمريكي، الأمر الذي قد يؤدي إلى اضطراب أسعار النفط عالميًا، وهو ما سيكون له انعكاسات كبيرة على اقتصادات الخليج التي تعتمد بشكل أساسي على إيرادات النفط.
وفي الختام من المؤكد أن مرحلة ترامب الثانية تمثل تحديًا حقيقيًا للنظام الاقتصادي العالمي الحالي، وقد تكون لها تداعيات على موازين القوى الاقتصادية والسياسية، وبينما يرى البعض أن هذه السياسات قد تعود بالنفع على الاقتصاد الأمريكي على المدى القصير، فإنها قد تعيد العالم إلى مرحلة من الصراعات التجارية، قد يصعب التراجع عنها في المستقبل القريب.
وهنا يمكن القول أن رئاسة ترامب ستفرض تحديات جسيمة على الاقتصاد العالمي وعلى اقتصادات الدول النامية مثل مصر، ودول الشرق الأوسط بشكل عام، وفي ظل رؤيته القومية، سيظل العالم مترقبًا للآثار المترتبة على تلك السياسات.
اقرأ أيضًا.. محمد عبدالرحمن يكتب: ما بين الواقع والمأمول “الأمل الوحيد لمصر في مواجهة العواصف الاقتصادية”
الكاتب الصحفي محمد عبدالرحمن يكتب سلسلة مقالات على موقع “إنفينيتي الاقتصادية” بعنوان “ما بين الواقع والمأمول”، يتناول خلالها الأحداث العامة والاقتصادية بشكل شامل وتحليلي.