يشهد العالم اليوم تحولات جذرية على كافة الأصعدة، إلا أن النظام الاقتصادي العالمي لا يزال يعاني من اختلالات عميقة تجعله غير عادل ولا متوازن. لقد ساد لعقود نموذج تهيمن فيه قوى اقتصادية كبرى، بينما تظل الدول النامية والأقل نمواً على هامش صناعة القرار، عاجزة عن مواكبة العولمة إلا بشروط مجحفة. هذا الواقع لم يعد مقبولاً في ظل التحديات المشتركة التي تواجه البشرية، مما يستدعي نقاشاً جاداً حول ضرورة إعادة هيكلة هذا النظام ليكون أكثر شمولية وعدالة وقدرة على مواجهة المستقبل.
إشكالية الهيمنة وغياب المشاركة الحقيقية
إن الخلل الأساسي في النظام الحالي يكمن في تركيز القوة الاقتصادية والسياسية بين يدي عدد محدود من الدول والمنظمات. هذا التمركز يخلق عدة مشاكل، أبرزها أن القرارات الاقتصادية العالمية تُتخذ في منتديات ومؤسسات (مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية) غالباً ما تعكس مصالح الدول الكبرى، بينما تُفرض على الدول الأخرى كأمر واقع، دون مراعاة كافية لظروفها الخاصة واحتياجاتها. يؤدي هذا إلى استمرار فجوة الثروة بين الشمال والجنوب، فالدول المسيطرة تستفيد من قواعد النظام لتعزيز مصالحها، بينما تظل الدول الأضعف مُصدرة للمواد الخام ومستوردة للسلع المصنعة، وهو ما يحبسها في دائرة التبعية والتخلف. لذلك، لا بد من إصلاح هياكل الحوكمة العالمية لتمثيل جميع الدول بشكل عادل، وإعطاء صوت أقوى للاقتصادات الناشئة والدول النامية في صنع السياسات الاقتصادية الدولية. هذا يعني إصلاح حق النقض (الفيتو) ونسب التصويت في المؤسسات المالية الدولية لتعكس واقع القرن الحادي والعشرين، وليس توازن القوى في منتصف القرن العشرين.
تقليل الاعتماد على عملة واحدة واستقرار النظام المالي
يعتمد النظام المالي العالمي حالياً بشكل كبير على الدولار الأمريكي كعملة احتياط رئيسية. وهذا الاعتماد المفرط يخلق مخاطر جسيمة، حيث أن أي اضطراب في الاقتصاد الأمريكي (مثل التضخم أو الأزمات السياسية) يتردد صداه فوراً في جميع أنحاء العالم، مما يعرض الاقتصادات الأخرى لصدمات خارجية لا ذنب لها فيها. والأخطر من ذلك، أن هذه الهيمنة النقدية يمكن استخدامها كأداة جيوسياسية لفرض عقوبات من طرف واحد، مما يعطل التبادل التجاري ويضر باقتصادات دول لا علاقة لها بالنزاع الأساسي. لذا، فإن الحل يكمن في التوجه نحو تعدد الأقطاب النقدية، من خلال تعزيز استخدام عملات أخرى (مثل اليورو واليوان الصيني) في التجارة الدولية واحتياطيات البنوك المركزية. كما أن تطوير أنظمة دفع عابرة للحدود بديلة والعملات الرقمية للبنوك المركزية يمكن أن يقلل من الاعتماد على نظام واحد ويجعل النظام المالي العالمي أكثر مرونة واستقرارًا.
الاستعداد الجماعي لمواجهة الأزمات الطارئة
لقد كشفت جائحة كوفيد-19 وأزمة ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة الناتجة عن الصراعات الجيوسياسية عن هشاشة النظام العالمي في مواجهة الصدمات. يجب بناء أنظمة إنذار مبكر مشتركة ومخزونات استراتيجية من السلع الأساسية يتم إدارتها بشكل تعاوني لمواجهة نوبات الجفاف والصراعات وانقطاعات الإمداد. كذلك، تثقل أزمة المديونية كاهل العديد من الدول النامية، مما يحرمها من الموارد اللازمة للاستثمار في الصحة والتعليم والبنية التحتية. هناك حاجة ماسة إلى آليات دولية عادلة وشاملة لإعادة هيكلة الديون، تتجاوز نادي باريس التقليدي، وتشمل جميع الدائنين (بمن فيهم القطاع الخاص والدول مثل الصين).
التحول إلى اقتصاد المستقبل: الأخضر والرقمي العادل
وأخيرًا، أمام تحديين مصيريين، يجب أن يكون النظام الاقتصادي الجديد هو الحافز للحل، وليس العقبة. فلا يمكن تحقيق الاستدامة البيئية باقتصاد يعاقب فيه الفقير ويثري الغني. يجب أن يكون الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر عادلاً، حيث توفر الدول المتقدمة التمويل والتكنولوجيا للدول النامية لتتكيف مع تغير المناخ وتتحول إلى الطاقة النظيفة، دون أن تحرم من حقها في التنمية. كذلك، فإن الثورة التكنولوجية والرقمنة تخلق فجوة رقمية جديدة. يجب أن يعمل النظام الاقتصادي على ضمان نقل التكنولوجيا وبناء البنية التحتية الرقمية في جميع أنحاء العالم، وتدريب الكوادر، لضمان أن تصبح الرقمية أداة للتمكين وخلق فرص متساوية، وليس عاملاً آخر من عوامل التفاوت.
الخلاصة هي أن العالم بحاجة ماسة إلى عقد اجتماعي اقتصادي جديد على المستوى الدولي. عقد قائم على مبادئ التضامن والتعاون الحقيقي بدلاً من الهيمنة، والتعددية القطبية بدلاً من الأحادية، والعدالة بدلاً من الربح وحده. إن إعادة بناء النظام الاقتصادي العالمي ليكون أكثر إنصافاً ومرونة ليست مجرد مسألة أخلاقية، بل هي مسألة ضرورة عملية لضمان الاستقرار والازدهار والأمن للجميع في عالم مترابط. المستقبل لا يمكن أن يُبنى على إهمال جزء كبير من البشرية.
غــــــــــــــــــادة طــلعـــت
خبيرة الاقتصاد وأسواق المال
إنفينيتي الاقتصادية
ويمكنك متابعة موقع “إنفينيتي الاقتصادية” عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على أحدث التحديثات اليومية لأسعار العملات الأجنبية والعملات العربية مقابل الجنيه، بالإضافة إلى أسعار الذهب في مصر.
ويقدم موقع “إنفينيتي الاقتصادية” مجموعة واسعة من الخدمات تشمل: “أخبار اقتصادية، أخبار محلية، أخبار الشركات المصرية، تحليلات السوق المصرية، الأحداث الاقتصادية المهمة في مصر، أخبار اقتصادية من الدول العربية، تحليلات اقتصادية إقليمية، الأحداث الاقتصادية المهمة في العالم العربي”.
كما يقدم موقع “إنفينيتي الاقتصادية” الأحداث الاقتصادية المهمة على مستوى العالم، بالإضافة إلي خدمات توعوية، مقالات تحليلية، دراسات اقتصادية، إنفوجرافيك، فيديوهات، تحليلات أسواق المال، نصائح استثمارية، أدوات مالية”.